مشروع ذا لاين في الميزان الاقتصادي

تسعى السعودية إلى تنويع اقتصادها النفطي، وأحرزت تقدمًا في تحسين صادرات الصناعات التحويلية وزيادة حصيلة الضرائب وارتفاع أصول صندوق الاستثمارات العامة. ولتحقيق هدفها، تلجأ أيضًا إلى مشاريع هائلة الحجم في الميدان العقاري، قائمة على التكنولوجيا الحديثة. ومشروع “ذا لاين” هو واحد من أهم هذه المشاريع.

صُممت “ذا لاين” كمشروع مدينة داخل منطقة نيوم على البحر الأحمر بخط مستقيم، لذلك سُمّيت ذا لاين. طولها 170 كلم وعرضها 200 مترًا. خُططت المدينة وفق أحدث التقنيات المعمارية وتحتوي على مناطق سكنية ومكاتب وحدائق، وتمتاز بخدمات صحية وتعليمية وغيرها. وهي مدينة خالية خلوًّا تامًّا من الانبعاثات الكربونية لعدم وجود سيارات فيها، وبالتالي، لا ضوضاء فيها حيث يتم نقل الأفراد والبضائع عن طريق قطار فائق السرعة.
من المتوقع بحسب بيانات المشروع أن يسكن المدينة تسعة ملايين شخص، وسيكون المقيم فيها متصلًا رقميًا بجميع مرافق الحياة، ويمكنه الوصول إلى أية خدمة خلال دقائق سيرًا على الأقدام. وعليه، تقدم المدينة طريقة جديدة للعيش في المدن معتمدة على الذكاء الاصطناعي.

العقبات الوهمية


وُجِّهت لمشروع ذا لاين عدة انتقادات غير مبنية على أسس موضوعية. إذ يقال إن المشروع فشل لأن المدينة لم تستقبل أحدًا حتى الآن وأن السكن فيها يفترض أن يبدأ في 2024. في الواقع، ينقسم المشروع إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى من 2021 إلى 2026: تتعلق بالهندسة المعمارية للمشروع وتنفذ هذه المرحلة ثلاث مؤسسات أجنبية متخصصة، وهي شركة جينسلر ومكتب ديلوغان مايسل وشركة موت ماكدونالد.
المرحلة الثانية من 2026 إلى 2028: البدء الفعلي بالبناء، خاصة السكني، وإجراء الاختبارات على وسائل النقل. أما المرحلة الثالثة فتمتد من 2028 إلى 2030 وتختص بتشغيل المدينة باستقبال السكان.
ويرى البعض الآخر أن مدينة “ذا لاين” تم الإعلان عنها في فترة كانت فيها أسعار النفط مرتفعة، وأن الدولة كانت تحصل على إيرادات كافية للتمويل، وحين انخفضت الأسعار لاحقًا ظهرت مشكلة التمويل التي قادت إلى تأخر الأشغال ما قد يؤدي إلى تقليص المشروع، والمراجعات التي تقوم بها الحكومة السعودية حاليًا هي خير دليل على ذلك.
الواقع أن أسعار النفط كانت متدنية جدًا في منتصف يناير 2021 بسبب تداعيات جائحة كورونا فقد كان سعر البرميل 57 دولارًا، وفي هذا التاريخ تحديدًا تم الإعلان لأول مرة عن مشروع “ذا لاين”. شهدت أسعار النفط بعد ذلك ارتفاعًا ولم تنخفض إلا في الفترة الأخيرة لعدة أسباب، من أهمها الضغوط التي تمارسها الإدارة الأمريكية الحالية على البلدان المصدرة للخام لزيادة إنتاجها.
أعلنت السعودية عن “ذا لاين” لأن هنالك رغبة شديدة لدى كبار المسؤولين في إنشاء مشاريع عملاقة ترتبط بهم شخصيًا وتضع السعودية على الواجهة العالمية. وهنالك انتقادات أخرى ترتبط بعدم واقعية المشروع من الناحية التكنولوجية. حسب التوقعات، يقطع القطار المسافة بين أول نقطة في المدينة وآخرها في عشرين دقيقة فقط. ويعلق بعض المهتمين على ذلك بأنه من محض الخيال لعدم وجود قطار بهذه السرعة في العالم، كما لا يسمح التقدم التكنولوجي في المستقبل القريب بإنشاء مثل هذا القطار؛ لذلك فهو صورة من صور الأوهام التي ارتكز عليها مشروع المدينة.

الواقع أن هذا الانتقاد غير دقيق أيضًا، يعرف السعوديون جيدًا القطارات فائقة السرعة التي تربط بين مكة المكرمة والمدينة المنورة والتي تبلغ سرعتها أكثر من 300 كلم/ساعة. كما أن دولًا عديدة كالصين واليابان وفرنسا تهتم كثيرًا بتطوير تقنية القطارات فائقة السرعة. في الصين، تبلغ سرعة قطار سي آر 450 كلم/ساعة وهو يعمل بجدارة في مختلف الظروف المناخية. وهنالك معلومات عن اهتمام الصين بإنجاز قطار بسرعة 600 كلم/ساعة.
ومن ناحية أخرى، تناقلت عدة مواقع خبر إفلاس الشركة الألمانية فولوكوبتر المكلفة بتوريد طائرات عمودية كهربائية (تاكسي) إلى ذا لاين. ويقال إن هذا الإفلاس دليل على عدم جدوى مثل هذه الاستثمارات. وفي الواقع لا نجد أي علاقة بين إفلاس هذه الشركة وجدوى المشروع. إفلاس هذه الشركة لا يعني إلغاء فكرة النقل بالطائرات العمودية، فهنالك عدة شركات عاملة في هذا الميدان في العالم. كما أن الإفلاس لا يعني بالضرورة التوقف عن النشاط بدليل أن شركة صينية اشترت الشركة الألمانية.
هنالك، كما هو معلوم، عدة دول تعرف النقل بواسطة الطائرات العمودية. والسعودية ليست الدولة الخليجية الوحيدة التي تعاقدت لشراء مثل هذه الطائرات؛ فقد اشترت الإمارات في الآونة الأخيرة 350 طائرة تاكسي من الصين بمبلغ مليار دولار.
تقدير مدينة “ذا لاين” لا يرتبط بالميادين أعلاه بل بأمرين أساسيين هما: التمويل والتداعيات الاقتصادية.

التمويل بالقروض


لا توجد معلومات دقيقة حول التكلفة الإجمالية لمشروع ذا لاين، وهذا أمر بديهي بسبب ضخامته وطبيعته ومدته. عند الإعلان عنه رسميًا في 2021، قُدِّرت الكلفة بين 100 و200 مليار دولار. وفي 2022 ارتفعت التقديرات إلى 500 مليار دولار، وهنالك حاليًا تخمينات أخرى تصل إلى أكثر من ضعف هذا المبلغ. كما ستظهر في السنوات القادمة تقديرات أخرى تتناسب مع مرحلة التنفيذ.
في الوقت الحاضر، يبدو أن تكلفة المرحلة الأولى وصلت إلى 327 مليار دولار وأن تمويلها تم عن طريق الدولة والقطاع الخاص المحلي والأجنبي. وحسب الإحصاءات الرسمية، انتقل الحجم الكلي للاستثمارات الأجنبية المباشرة في السعودية من 32.4 مليار دولار في 2021 إلى 31.7 مليار دولار في 2022، ثم إلى 25.6 مليار دولار في 2023، وانخفض إلى 20.7 مليار دولار في 2024.
وهكذا، سيكون من الصعب الاعتماد على المستثمرين الأجانب في تمويل “ذا لاين”. وعلى هذا الأساس سيقع العبء الأكبر على الدولة وهو ما يسبب مشاكل إضافية للميزانية بسبب عجزها المزمن.
في 2024 بلغت إيرادات الدولة 1230 مليار ريال ونفقاتها 1345 مليار ريال، أي نُظِّمت الميزانية العامة بعجز قدره 115 مليار ريال جرى تمويله عن طريق القروض، فارتفعت المديونية الحكومية لتصل إلى 1199 مليار ريال.
وفي 2025 قُدِّرت إيرادات الدولة بمبلغ 1184 مليار ريال ونفقاتها 1285 مليار ريال، أي بعجز قدره 101 مليار ريال تم تمويله عن طريق القروض أيضًا، فأصبح حجم الديون الحكومية 1300 مليار ريال.
ومن المتوقع أن يصل العجز في العام القادم إلى 130 مليار ريال، عندئذٍ سيرتفع حجم الديون الحكومية إلى 1430 مليار ريال. بمعنى آخر، إن أي زيادة في العجز تقود بالضرورة إلى زيادة الديون لأن القروض هي المصدر الأساسي، بل الوحيد، لتغطيته.
هكذا سيقود مشروع ذا لاين إلى ارتفاع هائل للديون الحكومية.

التداعيات الاقتصادية إيجابية وسلبية

بطبيعة الحال، يبدو من الصعب التحديد وبدقة لمجمل التأثير الاقتصادي لمدينة “ذا لاين”، لأنها لن تكتمل إلا بحلول 2030. لكن يمكن تحليل هذه النقطة اجمالاًُ من خلال مواصفات المشروع.
الغاية الأساسية من إنشاء المدينة تنويع مصادر الدخل عن طريق تطوير القطاع السياحي الذي بات في مقدمة القطاعات الرامية إلى تقليل الاعتماد على النفط. من المتوقع أن يؤدي “ذا لاين” إلى تزايد عدد السياح الأجانب الذي يشهد سنويًا ارتفاعًا مهمًا في السعودية؛ فقد انتقل عددهم من 18 مليون شخص في 2021 إلى 29 مليون شخص في 2024. سيزداد إذن عدد العاملين في القطاع السياحي البالغ حاليًا نحو مليون شخص.
تصميم المدينة وموقعها وخدماتها تشير بوضوح إلى أن المقصود بسكانها هم، بالدرجة الأولى، الأغنياء الأجانب من جميع أنحاء المعمورة. وعليه، من المتوقع أن تزدهر الاستثمارات العقارية فترتفع كذلك مصادر الدخل غير النفطي. ويقوم اقتصاد المدينة على المعرفة والذكاء الاصطناعي، وبالتالي فهو يختلف تمامًا، ومن عدة جوانب، عن اقتصاد المدن الأخرى.
سيضيف “ذا لاين” نحو 180 مليار ريال إلى الناتج المحلي الإجمالي للسعودية، وهنالك توقعات تشير إلى أن هذا الناتج سيصل في 2030 إلى 6.4 تريليون ريال. بمعنى أن مساهمة المدينة الجديدة ستكون متواضعة إلى حد ما وبما لا تتعدى 2.8%.. أما عن دور المدينة في خلق فرص عمل فسيكون بالتأكيد دورًا مهمًا، خاصةً وأن الحكومة السعودية تحاول معالجة البطالة لدى الشباب السعودي؛ من المتوقع أن تخلق المدينة (بحسب التصريحات الرسمية) نحو 380 ألف فرصة عمل جديدة، الأمر الذي سيقود إلى امتصاص عدد كبير من العاطلين.

رغم ذلك، إيجابيات المشروع لا تلغي سلبياته. من المتوفع أن المدينة سوف تعتمد اعتمادًا شبه كلي على الخدمات، لا سيما في ميادين العقار والنقل والصحة والتعليم، وبالتالي فإن إنتاجها السلعي سيكون ضعيفًا لارتباطه بالانبعاثات الكربونية. من جهة أخرى، تعتمد الحياة الاقتصادية والاجتماعية في المدينة اعتمادًا كبيرًا جدًا على قطار، فإذا ثَمّة خلل أصابه، لسبب أو لآخر، تعطلت أنشطة المدينة برمتها.
ستقود ذا لاين، بالضرورة، إلى ارتفاع هائل للديون الحكومية التي سيصل حجمها في 2030 إلى 40.6% من الناتج المحلي الإجمالي حسب توقعات صندوق النقد الدولي (تبلغ حاليًا نحو 29.8%). كما سترتفع خدمة هذه الديون (الأقساط والفوائد) فيزداد عجز الميزانية العامة وما يترتب عليه من تبعات سلبية تمس المواطنين مباشرة.
على أي حال، الاستدانة من أجل تمويل الاستثمارات أفضل بكثير من الاقتراض لتغطية النفقات العسكرية التي تمثل خُمس اعتمادات الميزانية. ولابد هنا من إثارة نقطة أخرى ترتبط بالجانب البيئي، في غاية الخطورة الصحية والاجتماعية والاقتصادية. تُخلف السعودية سنويًا نحو 805 ملايين طن من ثاني أكسيد الكربون وعند تقسيمها على عدد السكان، نلاحظ أن الفرد الواحد يُخلِّف 22.8 طنًا، أي خمسة أضعاف المعدل العالمي. وتُعتبر السعودية، وفق المقاييس الدولية، من بين البلدان الأكثر تلوثًا في العالم. يعاني السكان بشدة من التلوث بسبب الصناعات المختلفة، لا سيما الكيماوية وكثرة استخدام الوقود الأحفوري في المدن.
لذلك، تحاول السلطات العامة معالجة هذه الأزمة التي تطرقت إليها رؤية السعودية 2030. يحتاج السعوديون، إذن، إلى مناطق خالية من الكربون، فوجدوا “ذا لاين”. لكن ظهرت تقارير متخصصة تتناول خطورة بناء المدينة، تشير هذه التقارير إلى أن البناء يعتمد بالدرجة الأولى على الإسمنت والفولاذ والزجاج بكميات هائلة، وهو ما ستقود إلى توليد نحو 1.8 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون.
ما معنى هذا الرقم (على افتراض صحته)؟ سيبلغ عدد سكان المدينة تسعة ملايين نسمة كما ذكرنا، أي أن انبعاث الغاز للفرد الواحد يصل إلى 200 طن (قسّمنا كمية الغاز على عدد السكان). في حين أن المعدل السنوي للفرد الواحد في العالم 4.6 طنًا. بعملية حسابية بسيطة نستنتج أن الفرد الواحد المقيم في ذا لاين أدى إلى انبعاث غازات تعادل 43 ضعف المعدل الفردي العالمي.
ومن زاوية أخرى، تشير دراسات أخرى أن المشكلة البيئية في “ذا لاين” لا تتوقف عند هذا الحد، لأن البناء الزجاجي للمدينة سيكون فخًا لملايين الطيور المهاجرة سنويًا والتي تمر عبر منطقة البحر الأحمر.

يعد مشروع “ذا لاين” من أضخم المشاريع في العالم من حيث هندسته المعمارية وتكلفته المالية. لا غرابة، إذن، في أن يتعرض في مرحلته الحالية الأولى إلى المراجعة والتأخير والتعديل. ستكون تبعاته الاقتصادية الإيجابية مهمة لكن لا يجوز المبالغة فيها، كما أنه لا يخلو من السلبيات والعقبات، خاصة من زاوية تمويل تكلفته الباهظة.

منشورات أخرى للكاتب
البيت الخليجي للدراسات والنشر
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.