الفائض العراقي يُغضب واشنطن: الرسوم الجمركية كأداة ابتزاز ناعم

يحقق الميزان التجاري العراقي فائضًا مستمرًا مع الولايات المتحدة. وعليه، لم يكن مستغربًا في ظل رئاسة الرئيس دونالد ترامب، أن ترسل الرئاسة الأمريكية رسالة إلى الحكومة العراقية تتضمن صراحة خطورة استمرار هذا الفائض على الاقتصاد والأمن الأمريكي.
من الملاحظ أن الفائض هو السمة الأساسية للميزان التجاري العراقي. في عام 2023 بلغت الصادرات الإجمالية 105.3 مليار دولار قبالة الواردات الإجمالية بمبلغ وقدره 24.6 مليار دولار، ما يعني تحقيق فائض يصل إلى 80.7 مليار دولار. والفائض السلعي على درجة كبيرة من الأهمية التجارية والمالية والنقدية. فهو يُستخدم لتغطية عجز حساب الخدمات في ميزان المدفوعات ولخدمة الديون، كذلك لتمويل المصروفات الرأسمالية والمالية الخارجية المختلفة. ويزداد حجم الاحتياطي النقدي بفعل فائض هذا الميزان. لذلك، فإن أي انخفاض يتعرض له الفائض التجاري يؤدي بالضرورة إلى نتائج اقتصادية سلبية من عدة جوانب.
تعتمد تجارة العراق الخارجية اعتمادًا شبه كلي على النفط. وتبلغ الصادرات النفطية 101.3 مليار دولار أي 96.2% من المجموع الإجمالي للصادرات العراقية. وهذه النسبة تعتبر مرتفعة حتى عند مقارنتها بدول نفطية أخرى. جدير بالذكر أن القسط الأكبر من الصادرات غير النفطية يتأتى من النفط كزيوت السيارات. ويترتب على ذلك، اعتماد ميزانية الدولة على الإيرادات النفطية بشكل شبه كلي أيضًا.
ويحقق العراق فائضًا في تجارته السلعية مع الولايات المتحدة منذ فترة طويلة. في عام 1997 بلغت صادرات العراق للولايات المتحدة 311 مليون دولار مقابل واردات منها بنحو 82 مليون دولار. لا شك أنها مبادلات ضعيفة لسبب أساسي يرتبط بالحصار الدولي الذي كان مفروضًا على العراق على إثر غزو الكويت، لكنها ورغم ذلك، تحقق فائضًا.
وفي عام 2000 ارتفعت الصادرات بصورة كبيرة لتصل إلى 6 مليارات دولار، في حين هبطت الواردات إلى 10 ملايين دولار فقط. وفي 2008 بلغت الصادرات العراقية للولايات المتحدة أوج عظمتها حيث وصلت إلى 22 مليار دولار. نجمت هذه الزيادة عن إلغاء الحصار وعن الدور الجديد للولايات المتحدة في العراق، كذلك وبصورة خاصة، عن ارتفاع سعر الخام الذي وصل إلى 144 دولارًا للبرميل. أما الواردات فقد بلغت نحو 20 مليار دولار. لكن الصادرات العراقية للولايات المتحدة هبطت لتصل إلى 7.5 مليار دولار في 2024 وواردات تصل إلى 1.6 مليار دولار.
بالنظر لهذا العجز التجاري الأمريكي المستمر، يصبح العراق وفق حسابات واشنطن من البلدان غير المرغوب فيها، كالصين والاتحاد الأوروبي التي تخضع لرسوم جمركية مرتفعة.
قبالة ذلك، تحابي الإدارة الأمريكية دول مجلس التعاون الخليجي لأن الميزان التجاري السلعي الأمريكي يسجل فائضًا مع جميع هذه الدول دون استثناء. في 2024 حقق هذا الميزان فائضًا قدره 278 مليون دولار مع السعودية. ويرتفع مبلغ الفائض مع البلدان الخليجية الأخرى ليصل إلى 19.6 مليار دولار مع الإمارات.
لا شك أن الولايات المتحدة شريك تجاري مهم للعراق لكنها ليست من الشركاء الرئيسيين. إذ إن مجموع المبادلات السلعية الخارجية (الصادرات والواردات) معها التي تقدر بنحو تسعة مليارات دولار تمثل 7.1% من مجموع التجارة الخارجية العراقية السلعية، كما أن هذه المبادلات تتجه إلى الهبوط. في حين تصل التجارة مع الصين إلى أكثر من خمسين مليار دولار أي 39.2% من التجارة الخارجية العراقية السلعية وتتجه إلى التصاعد.

الرسالة الأمريكية
في أبريل المنصرم، وضعت الإدارة الأمريكية رسومًا جمركية إضافية على جميع دول العالم. وتختلف هذه النسب حسب العلاقة التجارية. كمبدأ عام، ترتفع النسب على الدول التي تحقق فائضًا تجاريًا مع الولايات المتحدة وتنخفض على الدول التي تسجل عجزًا معها.
وفي الوقت نفسه، طلبت الإدارة الأمريكية من الدول الدخول في مفاوضات معها. إذ يمكن تقليص هذه الرسوم إذا قدمت الدولة المتفاوضة امتيازات تجارية أو استثمارية أو مالية للولايات المتحدة. وهو ما يتعارض مع النظام التجاري العالمي الذي يستوجب العكس تمامًا، فمن قواعد هذا النظام، عدم جواز زيادة أسعار الرسوم الجمركية إلا تحت شروط معينة. وفي حالة زيادتها، يتعين على الدولة منح امتيازات لشركائها التجاريين المتضررين من هذه الزيادة.
تتناقض السياسة الجمركية الأمريكية صراحة وبوضوح مع هذا النظام الذي تشرف عليه وتطبقه منظمة التجارة العالمية. في أبريل المنصرم، كانت نسبة الرسوم الجمركية على العراق 39% وبعد التفاوض انخفضت النسبة إلى 30%. جاء هذا التخفيض في رسالة وجهها الرئيس الأمريكي إلى الحكومة العراقية بتاريخ 9 يوليو 2025 تتضمن أربع فقرات:
الفقرة الأولى: معالجة العجز التجاري الأمريكي مع العراق: تعتبر الرسالة هذا العجز تهديدًا لاقتصاد وأمن الولايات المتحدة، وهو تحذير وتخويف يرقى إلى الإدانة. من الناحية القانونية منحت المادة 232 من قانون التوسع التجاري الأمريكي لعام 1962 صلاحية لرئيس الدولة باتخاذ إجراءات ضد استيراد السلع كفرض رسوم جمركية إضافية أو قيود كمية دون الرجوع إلى الكونغرس. ولما كانت هذه الإجراءات تخالف اتفاقات التجارة الدولية، لم يلجأ الرؤساء السابقون إليها إلا نادرًا.
إن وجود هذه الفقرة في الرسالة الموجهة للعراق غير منطقي، إذ إن العراق لا يصدر أساسًا سلعًا خاضعة للرسوم الجمركية إلا بكميات ضئيلة لا تستحق الذكر. لا يمكن للعجز الأمريكي مع العراق أن يهدد الأمن في الولايات المتحدة لأنه يمثل قسطًا يسيرًا من العجز السلعي الأمريكي الكلي البالغ حوالي 900 مليار دولار. بمعنى أن العجز مع العراق يعادل نحو 0.6% فقط من العجز التجاري السلعي الكلي للولايات المتحدة، مقابل 26.2% مع الاتحاد الأوروبي و32.7% مع الصين.
الفقرة الثانية: الرسم البالغ 30% الذي يطبق على الصادرات العراقية اعتبارًا من مطلع أغسطس 2025 هو (حسب الرسالة) أقل ما يمكن فرضه على الصادرات العراقية. ويعتبر هذا السعر مرتفعًا قياسًا بمعدل الأسعار المفروض على غالبية البلدان.
الفقرة الثالثة: ضرورة تجنب زيادة الرسوم الجمركية العراقية على السلع الأمريكية. وبغير ذلك، سترتفع الرسوم الأمريكية على استيراد السلع العراقية، وهذا تحذير آخر.
الفقرة الرابعة: دعوة العراق إلى فتح أسواقه أمام الولايات المتحدة. وهو الأمر الذي يعني حث العراقيين على زيادة وارداتهم من الولايات المتحدة حتى ينخفض الفائض التجاري العراقي.
أرسل الرئيس الأمريكي رسائل مماثلة إلى دول أخرى كالجزائر وتونس وليبيا والاتحاد الأوروبي، متشابهة في معانيها بل وحتى في صياغة فقراتها. الأمر الذي يدل بوضوح على أن السياسة الجمركية الأمريكية تسعى بالدرجة الأولى إلى إجبار الدول على زيادة وارداتها من الولايات المتحدة واستثماراتها فيها. أضف إلى ذلك أن حصيلة الرسوم الجديدة تقود إلى تحسين إيرادات الميزانية الاتحادية التي تعاني من عجز هائل ومزمن.
ركز المسؤولون العراقيون على أمرين في تفسيرهم لهذه الرسالة، بعض المسؤولين اعتبروا أنها لا تتضمن أي تهديد، وهذا غير دقيق. كما أشاروا إلى أنها تدعو إلى تنمية المبادلات التجارية بين البلدين، وهذا خطأ آخر.
الرسالة الموجهة للعراق لا تهتم إلا بالعجز التجاري الأمريكي، وما تتطلع له واشنطن هو زيادة صادراتها والحصول على مكاسب استثمارية ومالية وتقليص وارداتها. تعتبر الولايات المتحدة الدول التي تسجل فائضًا في تجارتها مع واشنطن بأنها تعتمد على ممارسات تجارية غير عادلة أو على علاقة تجارية غير متوازنة أو على منافسة تجارية غير مشروعة. وعليه، وبحسب ما يعتقد المسؤولون الأمريكيون، هي دول تقدم دعمًا حكوميًا لمنتجاتها لتصل إلى الأسواق الأمريكية بأسعار منخفضة تؤثر بشدة على المنتجات الأمريكية المماثلة.

تخفيض الرسوم الجمركية
خُفضت واشنطن الرسوم المفروضة على العراق من 39% إلى 30% كما ذكرنا آنفًا. لكن ما هي الأسباب التي دعت إلى هذا التخفيض؟ يمكن ذكر ثلاثة أسباب على أقل تقدير:
السبب الأول: واردات العراق من الولايات المتحدة ليست 1.6 مليار دولار كما هو معلن في الإحصاءات الرسمية. بل هي أكثر من ذلك. يستورد العراق عبر شركات أجنبية ودول أخرى سلعًا أمريكية لا تدرج قيمها في المبادلات العراقية الأمريكية. وذكرت هذه المشتريات في بيان صادر عن مجلس الوزراء العراقي بتاريخ 5 أبريل 2025.
السبب الثاني: بسبب السياسة الاقتصادية الأمريكية الجديدة، أصبحت الصادرات العراقية تتجه نحو الهبوط والواردات نحو الارتفاع. وخلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري، بلغت صادرات العراق للولايات المتحدة 2.5 مليار دولار ووارداته منها 643 مليون دولار حسب الإحصاءات الأمريكية. وبالمقارنة مع الفترة نفسها من العام المنصرم، هبطت الصادرات بنسبة 10.8% وارتفعت الواردات بنسبة 13.6%. وهذا بالضبط ما يصبو إليه الأمريكيون.
السبب الثالث: لا تمنح الإدارة الأمريكية امتيازات ضريبية أو تجارية لدولة ما إلا إذا حصلت منها على مقابل. بمعنى أن السعر الجمركي المطبق على العراق هبط بعد أن قدم العراق مكسبًا للولايات المتحدة.
هذا ما يجري مع جميع البلدان المتفاوضة بما فيها الاتحاد الأوروبي، وهو القوة الاقتصادية الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة. فقد انخفضت الرسوم الجمركية على السلع الأوروبية المصدرة إلى الولايات المتحدة من 30% إلى 15% بموجب اتفاق أعلن عنه في 27 يوليو 2025. حسب الاتفاق، يلتزم الاتحاد الأوروبي مقابل هذا التخفيض باستثمار 600 مليار دولار في الولايات المتحدة وبشراء منتجات طاقية أمريكية بقيمة 750 مليار دولار خلال ثلاث سنوات.

تداعيات هامشية وأخرى خطيرة
تبلغ الصادرات العراقية للولايات المتحدة 7.5 مليار دولار. ويجدر الالتفات إلى أن المنتجات غير النفطية لا تتخطى مليون دولار من مجموع هذا المبلغ، والمنتجات غير النفطية تتكون بالدرجة الأولى من بعض المواد الزراعية كالبطاطا. وعليه، تكاد تقتصر الصادرات العراقية على النفط الخام والمكرر.
لا تسري الرسوم الجمركية الأمريكية على النفط، أي أنها تفرض فقط على بضائع عراقية قيمتها هامشية. وبالتالي، لا يترتب على هذه الرسوم تداعيات اقتصادية سلبية حتى وإن ارتفعت أسعارها إلى 300% ولا ينجم عنها تأثير إيجابي مهم إن انخفضت إلى 0%. لماذا إذن قدم العراق تلك الامتيازات للولايات المتحدة؟ هنالك عدة أسباب سياسية وعسكرية تجعل العراق يستجيب للمطالب الأمريكية، هنالك كذلك عوامل اقتصادية. كمثال، لا يمكن للعراق التصرف بأمواله المودعة في الخارج (الاحتياطي النقدي) إلا بموافقة أمريكية.
لا يهتم المفاوض العراقي بأسعار الرسوم الجمركية بقدر ما يهتم بإرضاء واشنطن والاستجابة لمطالبها. ولا يقتصر هذا الموقف على العراق بل يشمل عدة دول عربية، ومنها جميع بلدان مجلس التعاون الخليجي التي رصدت في الآونة الأخيرة أموالًا طائلة للاستثمار في الولايات المتحدة ولشراء معدات أمريكية مدنية وعسكرية. رغم ذلك، من المتوقع أن تؤثر الرسوم الجمركية الأمريكية بصورة خطيرة على التجارة النفطية العالمية وعلى الاقتصاد العراقي بالنتيجة. ستقود هذه الرسوم إلى تقليص صادرات الدول الصناعية إلى الولايات المتحدة، ويتعلق الأمر بالدرجة الأولى بالاتحاد الأوروبي والصين والهند. من المتوقع أن يفضي هذا التقليص إلى انخفاض الإنتاج فيتراجع طلبها النفطي. وهو ما سيؤدي إلى تدهور أسعار الخام فتتأثر بشدة المالية الداخلية والخارجية لجميع الدول النفطية. وكلما زاد اعتماد الدولة على النفط ارتفعت درجة التأثر. ولذلك، سيتضرر العراق بصورة كبيرة مقارنة بالدول النفطية الأخرى.
ختامًا، بحسب الرسالة الموجهة من الرئاسة الأمريكية إلى الحكومة العراقية، وافقت الإدارة الأمريكية على تخفيض الرسوم الجمركية المفروضة على الصادرات العراقية غير النفطية من 39% إلى 30%. نجم هذا التخفيض عن مكاسب منحتها بغداد لواشنطن، لكن العراق لن يستفيد من هذا التخفيض. ومن المتوقع أن يتضرر بسبب التداعيات السلبية والخطيرة لهذه الرسوم على الاقتصاد العالمي. وعلى هذا الأساس، تقتضي القواعد التجارية الدولية، وكذلك مبادئ العدالة، أن تقدم الولايات المتحدة تعويضات عن هذه الأضرار بدلًا من حصولها على مكاسب.

منشورات أخرى للكاتب
البيت الخليجي للدراسات والنشر
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.