السباق الرئاسي في تونس: أي جواد يُراهن عليه الخليج؟

توجه الرئيس التونسي قيس سعيد إلى شعبه في 25 يوليو 2024 في ذكرى عيد الجمهورية بقوله: “تباً لأي تدخل خارجي كما تبت يدا أبي لهب”. بهذه العبارة خاطب الرئيس الخارج قبل الداخل متوعداً جهات أجنبية لم يسمها – لكن لطالما أشار إليها في معظم خطاباته – ومتهماً المعارضة بالخيانة وبالتآمر على تونس. هكذا تسير الأجواء في تونس قبل شهرين من موعد الانتخابات.
تحدث سعيد في خطابه عن سقوط النظام الملكي وتأسيس الجمهورية متفحصاً ساعة يده وهي تدق عند الساعة السادسة مساء، مستحضراً التوقيت الذي أعلن فيه الجلولي فارس قيام الجمهورية التونسية في مثل ذلك اليوم من العام 1957. قال سعيد عن نفسه إنه “غريب كصالح في ثمود، غريب بين من أؤتمنوا وخانوا، غريب عن هذه المنظومة التي عادت لتتشكل خلال المدة الأخيرة و لتتآمر” مستدركًا: “لكنني لست غريبا بين أبناء شعبي”. لا يُعرف لأي غاية يستشهد الرئيس قيس سعيد بقوم صالح، ولن نغوص أكثر في دلالات هذه العبارات رغم أهميتها، لكنها كلمات مفاتيح تلخص المزاج العام لأبرز مرشح لرئاسة تونس للسنوات الخمس المقبلة.
وكان سعيد قد حسم قبل ثلاثة أشهر من موعد الانتخابات الرئاسية الجدل بشأنها، داعيًا التونسيين إلى التوجه يوم 6 أكتوبر 2024 إلى مكاتب الاقتراع لانتخاب رئيس جديد للبلاد. ورغم تأخر إعلان سعيد عن موعد الانتخابات، وهو موعد كان من المفترض أن تعلنه هيئة الانتخابات كما جرت العادة في السابق، إلا أن ما يزيد عن تسعين مرشحاً للرئاسة قد سحبوا حتى تاريخ كتابة هذه الأسطر طلبات حصول على تزكيات شعبية لخوض السباق الرئاسي.
كيف تتابع دول الخليج هذه الانتخابات وما هي رهاناتها؟
فن وسياسة وجيش
أبرز المرشحين للرئاسة، هو بالطبع الرئيس المنتهية ولايته قيس سعيد الذي أعلن عن ترشحه في 19 يوليو “لاستكمال معركة التحرير” على حد قوله، بعد خمس سنوات قضاها في الحكم. بلغة الأرقام تقول منظمة “أنا يقظ” لمحاربة الفساد إن سعيد لم يحقق 87.5 ٪ من الوعود التي قدمها للشعب “رغم جمعه كل السلطات في يده”. وتؤكد حصيلة نشرتها المنظمة يوم 27 يوليو أن قيس سعيد حقق 9 وعود فقط من جملة 72 وعداً تعهد بتحقيقها في حملته الانتخابية في العام 2019.
من المرشحين البارزين منذر الزنايدي وهو وزير أسبق في عهد بن علي، شخصية تعرفها دول الخليج وحمل حقيبتي وزارة السياحة ثم التجارة قبل الثورة. أسماء أخرى ليست بغريبة عن الخليج على غرار الكاتب الصافي سعيد والقيادي السابق في حزب النهضة أمين عام حزب العمل والإنجاز حاليًا عبد اللطيف المكي، وهو ممنوع من الظهور الإعلامي بمقتضى حكم قضائي.
كذلك وزير التربية الأسبق ناجي جلول ولطفي المرايحي السياسي القابع في السجن والممنوع من الترشح مدى الحياة. والموالي لقيس سعيد زهير الغزاوي والعسكري المتقاعد الأميرال كمال العكروت بالإضافة إلى الطبيب ذاكر لهذيب و3 نساء.
يترشح للانتخابات كذلك صهر بن علي السابق مغني الراب كادوريم الذي أعلن مساء 26 يوليو ترشحه قائلاً إن “الوضع في تونس دقيق وحساس وكارثي”. كادوريم واسمه الحقيقي كريم الغربي رجل أعمال ينشط في دبي والسعودية وكان آخر من عايش الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي حين أقام في جدة بعد هروبه من تونس، تزوج من ابنته نسرين بن علي في السعودية في العام 2018 قبل سنة واحدة من وفاة بن علي.
الأوفر حظاً وعلاقته بالخليج
تذهب مؤشرات إلى أن الرئيس قيس سعيد هو الأوفر حظاً في هذه الانتخابات، وذلك رغم أدائه غير المقنع وسط توسع الانتقادات له على خلفية تقييد الحريات والزج بخصومه في السجون وانقطاع الماء والكهرباء وارتفاع كلفة المعيشة. فالقانون الانتخابي الجديد الذي اختاره قيس سعيد بنفسه يناسبه بشكل ملحوظ، كما أنه يشترط حصول المرشح على 10 آلاف تزكية شعبية من الناخبين المسجلين موزعين على عشر دوائر انتخابية على الأقل. هذا الشرط ليس متاحًا للجميع، مؤخرًا، أقر المرشح المحتمل ناجي جلول بأن شروط جمع التزكيات صعبة وأن هناك “تخوف” من منح التزكيات.
قد يناسب الخليج أن يعاد انتخاب قيس سعيد لأنه شخصية عرف أداءها وحدودها، وباستثناء الخلاف مع المغرب بشأن الصحراء الغربية لم يزج قيس سعيد بنفسه في خصومات أخرى بل تقارب مع نظام الرئيس عبدالفتاح السيسي في مصر وحافظ على علاقات متوازنة مع الإمارات رغم العداء الجزائري الإماراتي.
يواجه منافسو قيس سعيد صعوبات في جمع التزكيات، وإذا كان الحصول على التزكيات صعب لمن هم خارج القضبان فمن المنطقي أن يكون جمعها لمن هم في السجون أكثر صعوبة. يقبع عدد كبير من مناهضي سعيد في السجن بتهم مختلفة أخطرها “التآمر على الدولة”، من بينهم مرشحون محتملون على غرار عبير موسي زعيمة الحزب الحر الدستوري. عُرف عن عبير موسي العداء الشديد لقطر وقربها من الإمارات وكانت قد ترشحت في عام 2019 للرئاسة لكنها لم تعبر إلى الدور الثاني.
في المقابل تراجع المعارض البارز والمعتقل السياسي عصام الشابي أمين عام الحزب الجمهوري عن الترشح، بحسب ما أعلنه حزبه قبل أيام، وهو ما يفسح المجال واسعًا لقيس سعيد لخوض انتخابات يبدو التنافس فيها ضئيلًا.
كيف يرى الخليج المشهد التونسي؟
قبل إعلانه عن موعد الانتخابات الرئاسية، كرر قيس سعيد في أكثر من مناسبة أن كل ما يهم خصومه هو الكرسي. وفي أبريل الماضي أثناء إحياء ذكرى وفاة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة قال إن “السلطة ليست طموحاً وكرسياً وأريكة كما يتوهّمون ويحلمون بل هي مسؤولية، نحن ثابتون على العهد من أجل تطهير البلاد من الذين أفسدوا وعاثوا فيها فسادا”. وانتقد سعيد من قاطعوا المواعيد الانتخابية بعد 25 يوليو 2021 وينوون الترشح للانتخابات الرئاسية قائلاً “من الغريب أن من قاطع الانتخابات التشريعية نجده اليوم يتهافت على الرئاسة”.
تُلخص الرغبة الجامحة في التنافس على منصب الرئيس مقابل الزهد في الانتخابات التشريعية والاستفتاء بشأن دستور جديد أهمية الانتخابات الرئاسية في تونس حتى لو راهن جُلّ المراقبين على تقدم سعيد عن منافسيه وحسم المنافسة قبل أن تبدأ. برر سعيد إعلان ترشحه بأنه “لمواصلة النضال في معركة التحرير”، وفي هذا التصريح رسالة للداخل والخارج بأنه ماضٍ في استكمال مشروعه وأنه لن يتخلى عن منصبه بسهولة.
بلغة الأرقام يرى منتقدو سعيد أن فترة حكمه كانت فاشلة من حيث الركود الاقتصادي وارتفاع معدل البطالة وعدم إيفائه بتعهداته ونفور المستثمرين من الوجهة التونسية بما فيها الاستثمار الخليجي. وعلى النقيض مما حدث عقب ثورة تونس في عام 2011، تحافظ دول الخليج في الوقت الحالي على علاقات جيدة مع تونس بعد أن كانت تونس تمثل ساحة حرب غير مباشرة بين دول الخليج من حيث الاستقطاب السياسي والأيديولوجي، زادت من حدة الاستقطاب الحرب في ليبيا ثم سوريا وبعد اتهام تونس “بتصدير المتطرفين”.
تغير المشهد بعد المصالحة الخليجية، وإن كان كثير من المراقبين يعتقدون أن الخليج غير مهتم في الوقت الحالي باحتفاظ قيس سعيد بمنصبه رئيسًا لتونس أو صعود منافس آخر، رغم ذلك، إن بقاء بن سعيد في الحكم يخدم عدة عواصم.
تراهن الإمارات على بقاء قيس سعيد في منصبه بعد أن زج بأبرز خصومه من الإسلاميين واليساريين في السجون واستئثاره بالحكم بعد تعليق البرلمان في 25 يوليو 2021. ما فعله سعيد بحزب النهضة، العدو الأول للإمارات في تونس، هو أمر لم ينجح فيه غيره.
بعد ثورة 2011 أشاحت الإمارات بوجهها عن تونس إثر صعود الإخوان إلى الحكم بعد أن كانت أبوظبي ثاني شريك لتونس بعد ليبيا. ساد التوتر أثناء حكم الترويكا وبلغ حد استدعاء السفير الإماراتي من تونس عام 2013.
تحسنت العلاقات قليلاً مع انتخاب الباجي قائد السبسي رئيساً أواخر عام 2014. كانت أبوظبي تتأمل في أن يكون حكم الرئيس السبسي مناهضًا لحركة النهضة في تونس أسوة بما فعله السيسي في مصر، لكن الرئيس السابق آثر المصالحة الوطنية على الصراع الداخلي، وهو ما زاد من تأجيج التوتر بين العاصمتين. يمكن القول أن فكرة استبعاد التيار الإسلامي من السلطتين التشريعية والتنفيذية في تونس لطالما كانت تناسب المزاج الإماراتي وتعتبره أبوظبي ضامنًا لاستقرار في البلاد والمنطقة.
عمليًا، لطالما كانت تونس الواقعة بين جارين أقوى منها عسكريًا وأكثر ثراءً، تكابد للحصول على قروض ومساعدات بعد فشل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. ويقدر عجز ميزانية تونس بـ 17.8٪ وبلغ التضخم في شهر يونيو 7.3٪ ما يجعلها في حاجة إلى هبات وقروض “الأشقاء”
سفيرة الإمارات في تونس إيمان أحمد السلامي أعلنت في فبراير الماضي أن “سنة 2024 ستكون سنة استثنائية ومتميزة للعلاقات التونسية الإماراتية”. وكانت السلطات التونسية قد سمحت لسفيرة الإمارات بتوزيع “كسوة الشتاء” لفائدة أسر تونسية فقيرة في منطقة العلا التابعة لولاية القيروان بعد أن كانت تتهم سفارات بعض الدول بـ “التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد”، وهي تهمة زُج بسببها معارضون تونسيون في السجون.
تونس وقطر: كرّ وفرّ
يوم 21 مايو 2024 ودع السفير القطري سعد بن نصار الحميدي تونس بعد أن قضى 14 عامًا سفيرا للدوحة، واكب فيها الأيام الأخيرة من عمر نظام بن علي وعايش انطلاق الثورة وصعود الإخوان إلى الحكم ثم انتخاب قيس سعيد وحله البرلمان في 25 يوليو 2021.
ورغم سجن أبرز رموز النهضة، إلا أن أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني تعهد في آخر لقاء له بقيس سعيد في مارس الماضي بأن تواصل الدوحة وقوفها إلى جانب تونس ودعم اقتصادها من خلال الاستثمارات وحفز التبادل التجاري وكذلك تشغيل اليد العاملة واستيعاب الكفاءات التونسية. لكن في الشهر ذاته منع البرلمان التونسي صندوق قطر للتنمية من فتح مكتب له في تونس ووصف مناهضو المشروع بأنه مفخخ يمس من سيادة البلاد.
وتعتبر قطر أكبر مستثمر عربي في تونس ويبلغ تعداد الجالية التونسية فيها نخو 42 ألف تونسي ما يجعلها شريكًا استراتيجيًا لتونس.
لا تزال السعودية حليفا مهما لتونس لا سيما بعد 25 يوليو واستبعاد النهضة ومراجعة اتفاق الشراكة مع تركيا ما قدم دلائل مشجعة للسعودية للرهان على تونس سياسيًا. آخر الاتفاقيات الموقعة بين الرياض وتونس كانت اتفاقية شراكة مع المجمع السعودي لإنتاج الهيدروجين الأخضر في تونس.
قد يكون من المناسب للرياض أن يُعاد انتخاب قيس سعيد لضمان استقرار في التوجهات العامة للدولة بعد أن غير الرجل في غضون سنتين فقط من الحكم مسار الانتقال الديمقراطي واستبعد التيار الإسلامي من المشهد.
خلاصة
تبدو حظوظ قيس سعيد وافرة مقارنة بمنافسيه من حيث قدرته على جمع التزكيات وسيطرته على مؤسسات الدولة والبرلمان، بقي أن يحسم الناخب اللعبة بالمشاركة في الانتخابات أو العزوف عنها، وهو المهموم بتراجع قدرته الشرائية ولهثه اليومي للحصول على المواد التموينية.
في بداية عام 2019 كانت فكرة أن يصبح أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد رئيسا للبلاد مثيرة للسخرية، فكان ترشحه في سياق اللعبة الديمقراطية بعد وفاة الرئيس السبسي بشكل فجائي. أمضى الرجل حملته الانتخابية متجولًا بين المقاهي للقاء الشباب مرددًا: “الدستور ما خطه الشباب على الحيطان” في إشارة إلى الشعارات الثورية الحماسية.
الشعارات ذاتها اليوم باتت مدعاة للملاحقات القضائية حيث سجن العشرات على معنى المرسوم رقم 54 الذي وضعه سعيد ويقاضى بمقتضاه مواطنين بتهم الإساءة على شبكات التواصل الاجتماعي.
في عام 2019 صوت الشباب بكثافة لقيس سعيد الذي لم تدعمه ماكينات إعلامية وقتئذ، لكن فئة الشباب عزفت عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة: الاستفتاء على الدستور (2022) وانتخاب برلمان جديد (2022) ومن السابق لأوانه التكهن بمدى رغبة الشباب بتجديد شغفهم بالانتخابات الرئاسية.
أيا كان اسم الرئيس القادم، بات من الواضح أن تونس ما عادت أرضية صراع بين دول خليجية بعد استبعاد الإسلاميين والمصالحة الخليجية التي وأدت الكثير من النعرات، لكن من الضروري أن يعي حاكم تونس القادم أن تسييس الاستثمارات الخليجية شر لا بد منه، وأن دول الخليج ما عادت تمد يدها للمساعدات بلا مقابل.

منشورات أخرى للكاتب