لحظة دول الخليج العربية أم نهايتها؟

تتعاظم أهمية دول الخليج مع ارتفاع أسعار النفط وأزمة الطاقة العالمية، يرافق ذلك حالة من الركود التضخمي التي تعصف بالاقتصاد الدولي، مع ازدياد نسب البطالة وغلاء المعيشة؛ مما يستدعي وجود سيولة مالية واستثمارات أجنبية ومصادر طاقة بديلة لتغيير المعادلة. وتلعب دول الخليج دوراً وازناً في هذه الأزمات مع احتياطاتها الهائلة من النفط والغاز التي تمثل ثلث المخزون العالمي المؤكد والبالغ 1.55 تريليون برميل، كذلك استحواذها على مجموعة من أكبر صناديق الثروة والأذرع الاستثمارية، خمس منها ضمن أضخم عشر صناديق سيادية في العالم.

تأتي كتابة هذا المقال تزامناً مع زيارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن للشرق الأوسط. والغريب أنه قبل قدومه إلى جدة ولقائه مع قادة دول المنطقة الحليفة للغرب (دول مجلس التعاون الخليجي والأردن والعراق ومصر) كتب مقالًا في واشنطن بوست برر فيه أسباب زيارته، وهو ما يعبر عن حجم تدهور العلاقات بين الحليفين اللذان تربطهما علاقة استراتيجية وثيقة منذ ثمانين عاماً. الرئيس بايدن أكد أن موقفه من السعودية لم يتغير وأنه منذ البداية كان يريد “إعادة توجيه العلاقة وليس قطعها” مشيراً إلى أن هذا اللقاء إقليمي وليس خاصًا بالسعودية.

كان لبايدن في زيارته ثلاثة أهداف رئيسية، تعزيز التطبيع مع إسرائيل حيث توجّه من تل أبيب إلى جدة مباشرة وأعلنت الرياض السماح بالمرور التجاري والمدني للطائرات الاسرائيلية فوق أراضيها، وتشكيل تحالف وجبهة جديدة في الشرق الأوسط لمواجهة إيران فيما يشبه الناتو العربي/الإسرائيلي وهو ما لم تستطع القمة الوفاء به، وأخيراً الضغط على دول الخليج لزيادة إنتاجها من النفط والغاز لمعالجة تداعيات ذلك على الاقتصادين الأمريكي والعالمي، وهو ما تحقق عبر إعلان السعودية زيادة طاقتها الإنتاجية إلى 13 مليون برميل/ يومياً. يمكن ملاحظة أن غالبية هذه الأهداف لا تتوافق مع مصالح دول الخليج وأولوياتها، فليس من مصلحة هذه الدول أن تنخفض أسعار النفط أو أن تكون في فوهة المدفع أمام إيران أو أن تخسر المزيد من تأييد شعوبها مع اقرار المزيد من سياسات التطبيع مع إسرائيل.

تشعر الولايات المتحدة بأنها اخطأت استراتيجياً حين بدأت تنسحب من المنطقة لتركز على صراعها مع كل من الصين وروسيا. ولكنها تدرك اليوم أن كل الطرق تعيدها إلى الشرق الأوسط وإلى دول الخليج بالتحديد. فانسحابها التدريجي من المنطقة جعل الصين ترتقي لتكون الشريك التجاري الأكبر لدول الخليج وروسيا غدت أهم لاعب في سوريا وليبيا، وهي قادرة على حسم كثير من ملفات الصراع في المنطقة، وإيران لديها نفوذ واسع في العراق ولبنان وسوريا وشمال اليمن؛ ما جعل خصوم واشنطن أكثر قوة ونفوذا في المنطقة. ولذلك أتى تصريح بايدن واضحاً لقادة القمة والعالم ” لن نغادر الشرق الأوسط ونترك فراغا تملؤه الصين أو روسيا أو إيران ” وهذا يمثل تراجعا عن المنهجية السابقة منذ فترة أوباما والتي كانت تنظر للمنطقة كمستنقع يصعب الخروج منه، وفي نفس الوقت تضع الأولوية لمنطقة جنوب بحر الصين Pivot to Asia وبعد ذلك أوروبا .

من جهة أخرى، تسعى دول الاتحاد الأوروبي إلى تقليل اعتمادها على الغاز والنفط الروسيين. ودون شك تعتبر دول الخليج أحد أهم المصادر المتاحة ما سيزيد حصتها من السوق الأوروبية التي تسيطر روسيا على معظمها حيث تستحوذ على 40% من احتياجات الاتحاد الأوروبي من الغاز المسال و 47% من الفحم و27% من النفط وهو ما يجعلها قادرة على ابتزاز أوروبا والتأثير على قرارات قادتها وأمن شعوبها الاقتصادي.

على الأرض، تمد دول الخليج جسور التواصل مع روسيا ولا تدين حربها في أوكرانيا وهو ما يغضب الحلفاء الغربيين، من جانب آخر، تبرز دول الخليج كمنقذ لدول أوروبا لتعويض عقود النفط والغاز طويلة المدى. تستفيد دول الخليج في هذا السياق من دخول سوق الطاقة الأوروبية وهو ما يقلل من اعتمادها على الأسواق الآسيوية – والصينية بالتحديد – التي تستورد معظم النفط والغاز الخليجيين. وهو الوضع الذي كان يضعها سابقا على معرض التأثر بأي أزمة أسيوية كما حصل في عام 1997 (أزمة النمور الآسيوية) التي انعكست على دول الخليج بشكل سلبي.

أتاحت الأزمات المتلاحقة في المنطقة لدول مجلس التعاون أن تقلل من اعتمادها المُفرط على الولايات المتحدة في علاقاتها الدولية ولتفتح قنوات تواصل مع كل من روسيا والصين والهند ودول الاتحاد الأوروبي والقوى الصاعدة عالميًا. وهي فرصة لتحقيق توازن سياسي واقتصادي استراتيجي إذا تمت الاستفادة من هذه التحالفات جيدًا. هذه “لحظة الخليج” كما وصفها الباحث الإماراتي عبد الخالق عبد الله في كتابه المعنون ب: لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر، لكنها أيضا قد تعني نهايته إذا أساءت دول الخليج استغلالها.

تبدو دول الخليج أمام مفترق طرق، إذ تسعى أمريكا لدفعها للمشاركة في تحالفات عسكرية وأمنية إلى جانب إسرائيل، خصوصا في دمج الدفاعات الجوية ومنظومة رادارات الحماية والرصد والإنذار المبكر، ولكنها قد تجعلها في صدام مباشر مع  بعض دول الجوار، ولذلك يظهر الحذر الخليجي هنا في تصريح الإمارات بأنها: ” لن نكون جزءا من محور ضد إيران”. إضافة إلى الرفض الشعبي الداخلي لأي تحالف مع إسرائيل، مما سيجعل الحكومات تحت مزيد من الضغط والصدام مع مواطنيها. ويجب الإشارة في الوقت ذاته، لتزايد قنوات التواصل والعلاقات مع كل من روسيا والصين. ما يحدث اليوم يعيد للذاكرة حالة الاصطفاف العالمي أيام الحرب الباردة بين معسكرين، شرقي وآخر غربي، وبقدر المخاطر والتحديات التي تصاحب هذه التحولات المصيرية إلا أنها تحمل الكثير من الفرص.

لا شيء يعيد تشكيل العالم وتوازنات القوى في العلاقات الدولية مثل الحروب والأزمات الاقتصادية، فحينها، يكون الطرف المستعد والمتأهب لهذه التحولات قادرًا على إعادة التموضع بما يخدم مصالحه وتطلعاته. غالبية التحولات الكبرى (الاستقلال والتحرر/ صعود وسقوط الدول) كانت تلي الحروب والأزمات الاقتصادية الكبرى التي تزعزع المنظومة وهو ما يفتح الأفق لصياغة عالم جديد. مثال على ذلك اتفاقية “وستفاليا” بعد حرب الثلاثين عاما في أوروبا، وعصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، والأمم المتحدة وموجة التحرر وحركات الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية، وتوسع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.

تبدو دول الخليج مضطرة للاختيار ما بين حليفها السياسي والعسكري الأهم الولايات المتحدة وشريكها الاقتصادي الأكبر الصين. تحدي وقعت فيه استراليا حين اضطرت للوقوف إلى جانب حلفائها (الولايات المتحدة وبريطانيا) في تكتل مناوئ للصين “أوكوس”، وهو ما أضر بمصالحها معها. هنا تتفارق المصالح السياسية والاقتصادية بل وتتصادم بشكل واضح، الفارق هو في لحظة النهاية التي قد تصبح دول الخليج فيها مضطرة للاختيار.

وقبالة “المعضلة الأسترالية” يبدو نموذج نيوزلندا واعداً وملهماً حيث حافظ على شراكة استراتيجية أمنية وثيقة من خلال تحالف العيون الخمس (بريطانيا والولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزلندا) لكنه في الوقت نفسه حافظ على علاقات وثيقة اقتصادياً مع الصين. الأكثر من ذلك، تبعب نيوزلندا دور الوسيط بين مختلف القوى المتصارعة في محيطها. بالتوازي، اتجهت نيوزلندا للحفاظ على علاقاتها السابقة مع مد جسور التواصل مع دول وتكتلات أخرى مثل الإتحاد الأوروبي ودول الآسيان والهند والقارة الأفريقية وأمريكا اللاتينية. ورغم كونها دولة صغيرة المساحة ومعزولة جغرافيا ومحتاجة للحماية الأمريكية إلا أن السياسات الهادئة والمدروسة والبعد عن الصدام والانشغال بالبناء الداخلي وعدم خلق عداوات مع المحيط أتاح لها أن تحافظ على علاقاتها مع مختلف الأطراف بشكل متوازن.

لدى دول الخليج موارد أعظم وهي ليست معزولة جغرافيا، بإمكانها تحقيق أكبر قدر ممكن من التنويع في شراكاتها. المهم أن تتخلص من الاعتماد المفرط على أي طرف وألا تنتقل من حالة التحالف الوثيق إلى العداوة، أو أن تكون خاصرة رخوة لأي تحالف مع إسرائيل ضد إيران. يجعلها تعيش حالة من الصدام الداخلي قبل الخارجي مما قد يعمق الفجوة الموجودة بين هذه الحكومات وشعوبها.

منشورات أخرى للكاتب