العلاقات الإيرانية – التركية: صراع منضبط خير من تحالف خاسر

خلافًا للإفتراض التقليدي، المولود من إسقاطات النزاع التاريخي بين العثمانيين والصفويين على الحاضر، ومن ناحية جيوسياسية صرفة، لا يعدّ الوجود الإيراني في سوريا خسارة كبيرة لتركيا بالمقارنة مع تمدّد “قوات سوريا الديموقراطية” بغالبيتها الكردية الواضحة، في أجزاء كبيرة من شمال سوريا وشرقها. وأبعد من ذلك، تصل قراءة الحسابات التركية بصورة متأنية، إلى جبل سنجار بما يمثل من محطة خلفية لحزب العمال الكردستاني، وبتقاطعه مع المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديموقراطية تحديدًا.

النظر إلى الخرائط على أهميته، قد لا يكون كافيًا. ما يميّز إيران هو أنها تعرف حلفاءها وتعرف خصومها، فهي على حلف مصالح واضح مع روسيا، وتسيطر عمليًا على مجموعة كبيرة من الفصائل المقاتلة. ومن ضمن عدة شروط في سوريا وفي العراق، أتاح لها هذا الحلف تحديد موقف واضح من مختلف الأزمات. على العكس من ذلك، عانت تركيا من تراجع علاقاتها مع العرب. ويعتقد كثير من المراقبين أن الانفراجات الأخيرة في العلاقة مع مصر والسعودية لن تكون كافية لتأسيس حلف استراتيجي فعّال يشبه الأحلاف التي أنشأتها إيران. فمصر، مثلاً، قبل فترة غير بعيدة، نفذت مناورات عسكرية مع اليونانيين والإسرائيليين إلى جانب قبرص اليونانية، ضمن الخلاف على منابع الغاز على الحوض الشرقي للبحر المتوسط. وهذا الملف ليس خلافًا سهلًا يمكن تجاوزه مثل مجموعة أخرى من الخلافات الكبيرة. هنا، يبرز التزاحم الإيرانيّ التركيّ على مستوى الخلافات والمصالح المشتركة، حيث قد يصل الأمر إلى خلافاتٍ ومصالحَ تدارُ في الأزمة نفسها، وهو نموذج يكاد يكون استثنائيا في العلاقات الإقليمية، وصمام أمانٍ دوليًا.

تعقيدات الساحة العراقية

تعدُّ المسألة الكرديَّة عاملًا أساسيا في علاقات أنقرة – طهران. ومع تصاعد التهديدات الكردية بالانفصال، وما يمثله هذا الصعود من تهديد مباشر لأمنهما القومي، اتجهت الدولتان إلى تعاون أكثر وضوحًا. لكن مؤخرًا تحوّل الاتفاق إلى خلاف أسفر عن استدعاء سفيري البلدين في ظل تصريحات سفير إيران لدى العراق إيرج مسجدي، أكد فيها رفض بلاده التدخل العسكري التركي في العراق وانتهاك سيادته. يمكن أن يحسب هذا في دائرة “تنظيم الصراعات”، رغم أنه أدى إلى استدعاء سفير إيران لدى تركيا، وإبلاغه أن أنقرة تنتظر من طهران هو دعم تركيا في مكافحتها للإرهاب، وليس الوقوف ضدها، كما استدعت وزارة الخارجية الإيرانية سفير تركيا في طهران، دريا أورس، احتجاجًا على تصريح لوزير الداخلية التركي سليمان صويلو، تحدث فيه عن وجود عناصر لمنظمة “حزب العمال الكردستاني على الأراضي الإيرانية”. لكن لا يمكن اعتبار العامل الكردي السبب الرئيسي في هذه الأزمة، بل على العكس تمامًا. لقد شنت الدولتان في يونيو 2020 ضربات جوية ومدفعية متزامنة على متمردين كرد شمالي العراق.  

لا يخلو المشهد من التوتر. صحيفة “شرق”، وفي مقال يتعلق باستدعاء سفيري تركيا وإيران، ذكرت أن أنقرة دأبت خلال السنوات الأخيرة على اتهام طهران بإيواء عناصر من تنظيم “بي كا كا” الذي تصنفه إرهابيًا، وردَّت على ذلك بدعوة مجموعةٍ من العناصر الانفصالية والمعادية لإيران لديها نزعات تركية الأصل للتواجد في تركيا، وسمحت بتأسيس منظمات وتوظيف مجموعة منهم في المؤسسات الإعلامية وكافة المؤسسات التركية، لتتحول عمليًا إلى مكانٍ آمن لأنشطة هذه العناصر الانفصالية المناهضة لإيران. كذلك اعتبر حقي أويغور نائب رئيس مركز “إيرام” للدراسات الإيرانية، ردود الأفعال الإيرانية تجاه تركيا خلال الأشهر الأخيرة وتصريحات مسجدي بمثابة نهج غير المسؤول من بعض المسؤولين الإيرانيين، من شأنه تهديد العلاقات بين أنقرة وطهران. أمَّا تركيا فوفقًا لأويغور، تؤكد على مساعي “بي كا كا” لزيادة تأثيره في العراق وسوريا بعد العمليات “الناجحة” للقوات المسلحة التركية. كما ترى تركيا أيضًا استهداف هذا الفصيل في العراق مناسبًا، كي لا توتر علاقاتها مع الولايات المتحدة التي تدعم هذه المنظّمة.

على جانب آخر، ورغم أهمية العامل الكردي كمؤشر لصعود العلاقة ومحددا لها، هناك في إيران من يرى أن إردوغان ينظر إلى الموصل وكركوك والسليمانية كأجزاء من الدولة العثمانية، ويدعم التركمان في تلعفر وكركوك. ويتهّم تركيا بالسعي إلى ضم الولايات التاريخية للموصل إلى أراضيها في الوقت المناسب، عبر عملها على إحياء نفوذها على الموصل تحت غطاء المساعدات الإنسانية فضلًا عن دعمها المكونين السنّي والتركماني. يقول الباحثان ولي غل محمدي وحميد رضا عزيزي، خلال مقالهما على “ناشونال انترست” إن استبعاد طهران من الاتفاقية الثلاثية بين أنقرة وبغداد وأربيل لتطهير سنجار من حزب العمال الكردستاني جعلها تشك في خطط تركيا الخاصة بالعراق. فهي قلقة من إمكانية استخدام أنقرة حملتها العسكرية المناهضة للأكراد لتأسيس وجود عسكري طويل الأمد في سنجار.

وفي دراسة تتناول طبيعة المنافسة والتعارض ما بين إيران وتركيا، يقول الباحث مسعود رضائي، إن تركيا تدعي في العراق المسؤولية التاريخية للحفاظ على الأقليات السنية والتركية فيها أمام القوات الشيعية. وترى طهران بجانب الحكومة المركزية في بغداد، أن التدخل التركي والتواجد العسكري لها في العراق بمثابة هجوم وفي إطار إضعاف الحكومة المركزية في العراق، فضلًا عن تأكيدهما على مساعي تركيا لضم المناطق الشمالية العراقي وتوسيع الأراضي. 

هناك في إيران من يرى في الموصل حلقة مهمة في تهيئة الاتصال البري لمحور يربط إيران بلبنان والبحر المتوسط من خلال العراق وسوريا، خاصةً وأن الموصل يشكّ طريقًا أساسية من ثلاثة لإيران نحو المتوسط. يمتد الأوَّل من البصرة نحو الأنبار ومن ثم إلى سوريا والبحر المتوسط ولبنان. والثاني يمتد من الحدود الشرقية في ديالى إلى بغداد ومن ثم الأنبار ليلتقي بالطريق الأول. أما الثالث؛ فقد بات يمتد من ديالى-كركوك-الموصل – تلعفر ومن ثم الرقة فحلب وصولًا إلى اللاذقية والبحر المتوسط، قاطعًا بذلك مناطق تعتقد تركيا أنها خاصة بنفوذها في العراق وسوريا لدواع تاريخية وحضارية وجغرافية. رغم كل هذه التباينات فإن ثمة اتفاق غير معلن على “تنظيم الخلافات”.

اليمن وسوريا: إدارة الصراع

ليس فقط في سوريا، أثبتت التجربة الأرمنية – الآذرية أيضًا أن المصالح المشتركة بين إيران وتركيا على مستوى الأمن القومي تلعب دورًا هامًا في برمجة العلاقات بينهما. بيّنت التجربة الأخيرة خلال المعارك بين أذربيجان وأرمينيا، حدود احترام مصالح كل من الدولتين لبعضهما البعض. لا يعني ذلك أن ثمة تحالفًا طبيعيًا بين البلدين، على العكس من ذلك، تزداد التباينات والخلافات بين البلدين في عديد من الملفات.

في سوريا، ورغم نجاح البلدين في تسوية خلافاتهما، فإن الخلاف حول مستقبل البلاد ما زال كبيرًا، وقد يدفعان أثمانًا لهذا الاختلاف في المستقبل. وفيما تتحدث معطيات عن تحول في الموقف التركي من الملف اليمني، يؤدي بالنهاية إلى وقوفها إلى جانب السعودية هناك، فإن هذا لن يعني دخول الأتراك في حلف واحد ضدّ إيران، ولا سيما أن الملف اليمني نفسه، في ضوء توجهات إدارة بايدن الجديدة تجاه حلّ النزاع، قد يتحول مع الوقت إلى ملف أقل سخونة في المنطقة، من دون أن يغفل ذلك الخسائر الإنسانية الهائلة التي حلّت باليمنيين.

رغم الحديث عن تغيرات بعد الانتخابات الإيرانية، أو التحولات التي قد تستجد في الملف النووي، وحتى في التقارب التركي العتيد مع حلف الدول العربية الذي تقوده السعودية، لا يبدو أن ثمة انسلاخا بين الإمبراطوريتين القديمتين (إيران وتركيا)، ولكون تركيا متنفس واضح لإيران بقي نابضًا بالحياة حتى خلال ذروة العقوبات الأميركية.

يعتبر المتغيّر الإقليمي أحد أبرز المتغيرات المحددة للعلاقات بين إيران وتركيا، وساهمت الاستراتيجية الإقليمية الإيرانية القائمة على دعم الجماعات الشيعية التابعة لها داخل الدول العربية في دفع تركيا إلى تعزيز نفوذها الإقليمي لمواجهة النفوذ الإيراني المتصاعد، بهدف إحداث توازن للدور الإيراني الذي بدأ يتصاعد على حساب المصالح الاستراتيجية التركية.

وبعد حدوث الأزمة الخليجية بين قطر من جهة، والسعودية والإمارات والبحرين ومصر من جهة أخرى، عملت أنقرة وطهران على انتهاج سياسات من شأنها تعزيز التقارب مع قطر لمواجهة الضغوط المفروضة عليها، كما كان دعم جماعات مثل الإخوان المسلمين – أحد أسباب الأزمة الخليجية- لمواجهة النفوذ الإيراني أثَّر سلبيا أيضًا على علاقات تركيا مع المحيط العربي وخاصة الخليجي بالإضافة إلى مصر. لكن الأمر قد يتغير بعد المصالحة الخليجية و”قمة العلا”، وإعادة التقارب التركي الخليجي من جديد. وقد ظهر ذلك فيما يذكر عن تعاون تركي-سعودي في اليمن في مواجهة الحوثيين، وقد يكون حزب التجمع اليمني للإصلاح (المحسوب على الإخوان المسلمين) هو صلة الوصل بين تركيا والسعودية في اليمن. فالسعودية تتعاون مع الحزب القريب إيديولوجيًا من الحكومة التركية في نزاعها مع الحوثيين، كما يشارك الحزب في المعارك الأخيرة بمنطقة مأرب.

العلاقات التركية-الخليجية إجمالًا تحسنت خلال الآونة الأخيرة وخاصة بعد وصول جو بايدن إلى رئاسة أميركا وتجاوز مرحلة مقتل خاشقجي، وتغيّر خارطة الاصطفاف الإقليمي عما كانت عليه في عهد ترامب، في ظل جهود تركيا لاستئناف علاقات إيجابية مع لبنان، السعودية، وإسرائيل إلى حد ما لتقييد أكبر لنفوذ إيران في المنطقة.

لكن لعدة أسباب، يعتقد مراقبون أن تحقيق اتفاقات في اليمن، أسهل بكثير من تحقيقها في سوريا أو في العراق، أو حتى في لبنان. ويستندون في ذلك بتحليل الرغبة الأميركية الجديدة باعتماد اليمن مدخلًا للتحدث مع إيران، حيث يعكس ذلك بوضوح افتراضات الأميركيين بأن استبعاد مصالح الدول العربية مثل السعودية والحلف الذي تقوده، أسهل من استبعاد مصالح إيران وتركيا، وبالتأكيد مصلحة إسرائيل، في أي مفاوضات أو تفاهمات، أو إدارة جديدة للصراعات.

يتوقع أن يكون الموقف التركي في اليمن، على الأقل في المراحل الأولى، موقفًا مشروطًا بتوقعات لحدوث انفراجات في الملف اليمني وتحوله إلى ملف بارد، على أن تبقى العلاقة في سوريا مشروطة بهاجس أساسي، تدور القراءة التركية حوله من الآن وصاعدًا، وهو الوجود الكردي. أما التوجهات الإيرانية، تدل على أن أصحابها ليسوا على عجلة من أمرهم، باستثناء الرغبة الجادة بالاستفادة من الطابع الجيو سياسي للعلاقة مع تركيا لإحراز تقدم في مسألتين أساسيتين: الأمن القومي الإيراني، والأزمة الاقتصادية.

في الحديث عن قراءة مستقبل العلاقات، يلاحظ أن الوضع على الأرض يميل لمصلحة الإيرانيين في الدولتين المحاذيتين لتركيا، أي سوريا والعراق، حيث يبدو أن الجماعات المتحالفة مع إيران والمدعومة منها تملك أفضلية عسكرية واضحة في هذين البلدين. وفي اليمن، يصير العثور على حليف جدي لتركيا في غاية الصعوبة، بالمقارنة مع النفوذ الكبير الذي تتمتع به جماعة الحوثيين. وفيما يبدو أن هناك أنصار كثر للتقارب الإيراني – التركي في المنطقة، يبدو أن ثمة أنصار للتباعد أيضًا، خاصةً في البلاد التي تشكّل محطات للصراع، مثل سوريا. ليس خافيًا على أحد، أن أطيافًا واسعة في المعارضة السورية، تضررت من التقارب، على الأقل من الناحية السياسة، رغم أن الميدان السوري ما زال – ومن المرجح أن يبقى – ملعبًا واسعًا للصراع بين الدولتين.

في محصلة هذا الجزء، يجب الفصل بين الاختلافين المتوقعين في اليمن وفي سوريا. ففيما يبدو اليمن أقرب جغرافيًا إلى إيران، وتبدو سوريا كذلك إلى تركيا، لن تكون الجغرافيا عاملًا وحيدًا في تحديد المواقف. لكن في جميع الأحوال، ستلعب آلية تنظيم الخلافات في سوريا دورًا رئيسيًا في رسم شكل العلاقة بين البلدين، وضبط حدود التوترات والانفراجات بينهما، ولا سيما أنه لا يوجد أي دور عربي قادر على منازعتهما هناك، أو التأثير على خياراتهما. كذلك، فإن الموقف العربي التقليدي من وحدة سوريا ووحدة العراق، قد لا يكون مشابهًا بالنسبة للإيرانيين أو للأتراك. وتجنبًا لأي سيناريوهات محتملة، يبدو أن البلدين يفضلان إدارة صراعات متعددة وطويلة بينهما أكثر من انشاء تحالف يكون خاسرًا لكليهما. وإن كانت هذه العملية، في سوريا وفي العراق أو حتى لاحقًا في اليمن، قد تشهد تصعيدًا سيبدو خطيرًا قبل أن يصار إلى احتوائه في عدة أطر، الاقتصاد ليس إلا واحدًا منها. خلال النصف الثاني من العام قبل الفائت، سجّل الميزان التجاري تفوقًا طفيفًا لمصلحة تركيا على حساب إيران للمرة الأولى منذ سنوات كثيرة، بما فيها سنوات الحصار الطويلة التي تعرضت لها إيران. خلال العامين الماضيين، تجاوزت الصادرات التركية إلى إيران ما تستورده منها. وحسب إحصاءات رسمية، انخفضت نسبة استيراد النفط الخام والمنتجات النفطية التركية من إيران بنسبة تقارب الثلثين. بيد أن اصلاح العلاقات الاقتصادية مع تركيا يبقى مصلحة للبلدين، وخاصةً إيران، التي تفضّل اصلاح هذه العلاقة حتى ولو كان ذلك لمصلحة الميزان التجاري التركي، شرط ألا يغلق المنفذ التركي بالنسبة للإيرانيين، والعكس صحيح.

منشورات أخرى للكاتب