صناعة النخبة السياسية في إيران: الوقود الصلب للنظام
لم تكن إدارة إرث النظام الملكي، وحدها، التحدي الأبرز الذي واجه الإطار السياسي للثورة الإسلامية في إيران بعد انتصارها. علم قادة الثورة أن صياغة نظام جمهوري تحت شعار “مردم سالاري ديني” أو السيادة الشعبية الدينية، لن تكون مسألة سهلة، أو أن نجاحها يقتصر على الأماني وزخم اقتلاع الشاه.
وإذ لم يكن كافيًا تكريس مشاركة الشعب في السلطة عبر نصوص قانونية ودستورية، برز الاعتماد على عنصرٍ تصوغه عوامل تراكمية تنتج ما يمكن وصفه بالوقود الصلب للنظام: النخب السياسية التي أفرزتها الثورة لتحقيق أهدافها على المديين القريب والبعيد. فكيف نشأت هذه النخبة، وكيف تُصنع حتى اليوم؟
لفهم آلية اختيار النخبة السياسية في إيران، لا بدّ من المرور على حمل ثقيل تركه نظاما الدولتين القاجارية والبهلوية في السنوات السبعين الأولى من تاريخ إيران المعاصر.
كان المجتمع الإيراني يُقسم قبل الثورة الدستورية عام 1906 إلى ثلاث طبقات: الأولى رجال الدولة والأمراء والوزراء؛ والثانية الأشراف والاقطاعيون ورجال الدين؛ والثالثة عامة الشعب. استبعد هذا التقسيم، بطبيعته الاستبدادية، عامة الشعب عن المسؤوليات، وأفرز نخبتهُ السياسة من بلاط الملك والعائلات الحاكمة ولاحقاً العسكر. ويذكر الباحث الإيراني علي رضا ازغندي فی کتابه “النخبة السياسية في إيران بين الثورتين” أن “نخبة البلاط كانت من أقرباء الشاه، حيث لعبوا الدور الأساسي في إدارة المؤسسات السياسية، وأقاموا علاقات مع النخبة الفكرية التي أصبحت بدورها مؤثرة على القرار في عهد الشاه”. لاحقاً، أسّست هذه النخبة شكلاً جديداً من التيارات السياسية والأحزاب كان لها دور مهم في تحريك دفة السياسة بالبلاد.
سلطة المناضلين الثوريين والأحزاب
واقع التعيينات واستلام المناصب بعد انتصار الثورة الإسلامية، عكس حالة عدم الاستقرار التي استمرت بطبيعة الحال طيلة العقد الأول من الثورة، لحداثتها في الحكم ولوقوعها تحت وطأة حرب الخليج الأولى.
أفرزت الثورة الإسلامية نظامها الحاكم، أي الجمهورية الإسلامية وطليعة المسؤولين فيها عبر الانتخابات الرئاسية وغيرها، حيث شاركت فيها الأحزاب والتشكيلات السياسية آنذاك إلى جانب عدد من المستقلين المعروفين بنضالهم الثوري. أهم الأحزاب السياسية التي تشكلت في تلك المرحلة وأسست لما بعدها هو الحزب الجمهوري الإسلامي، الذي قدم مرشحيه منذ الدورة الرئاسية الأولى، وربح في الثانية مع وصول مرشحه محمد علي رجائي، ثم ربح الدورة الثالثة والرابعة بوصول علي خامنئي إلى الرئاسة.
يقول الباحث حسين بشيريه في كتابه “مقدمة على علم الاجتماع السياسي في إيران” إن العقد الأول من عمر الجمهورية الإسلامية، ورغم وجود تيارات وقوى سياسية مختلفة نشطة، تأثر بشخص قائد الثورة الإمام الخميني”، ولذلك يصفه بشيريه “بمرحلة حكم تيار خط الإمام”.
أبرز ملامح النخبة السياسية التي أفرزتها هذه المرحلة هي ولوج رجال الدين في هيكلية السلطة، وترأسهم أعلى المسؤوليات، إضافة إلى ظهور مناصب عديدة ذات طابع إسلامي، كأئمة الجمعة وممثلي الولي الفقيه في كل المؤسسات والوزرات والمنظمات في البلاد. مثلًا، بلغ عدد رجال الدين النواب في البرلمان الثاني بعد الثورة 122 نائبًا. تجدر الإشارة إلى أنّه وبالاضافة لتقلد رجال الدين مناصب في السلطة، كان لهم دور آخر في ترشيح ودعم من يحصل على ثنائهم من أصحاب البدلات (أي غير المعممين) لمناصب في السلطة أيضًا.
تكنوقراط وحديثو النعمة
مع نهاية الحرب العراقية الإيرانية، وصل هاشمي رفسنجاني إلى سدة الرئاسة. كانت ظروف البلاد متوترة سياسياً ومتدهورة اقتصادياً. أجرى رفسنجاني تغييرات شملت كوادر حكومية، ويقول انوشيروان احتشامي: “لجأ هاشمي إلى الاعتماد على وزراء من حملة الشهادات، لتصبح حكومته أكثر تكنوقراطاً”. استمرت مرحلة رئاسة هاشمي لـ 8 سنوات وأسست لمرحلة سياسية واقتصادية جديدة في إيران يصفها البعض بمرحلة ازدهار، إلا إن البعض الآخر في الداخل الإيراني يعتبرها “مرحلة ظهور حديثي النعمة، وانحراف المسؤولين عن مسار الثورة والتقشف نحو التجمل والإسراف”. إلى جانب هذه المتغيرات في صف الساسة في إيران، يمكن الإضاءة إلى عوامل أخرى أثرت على انتخاب وتعيين المسؤولين في هذه المرحلة، أبرزها مقاتلو الحرب حيث تُرجم تقدير المدافعين عن الوطن خلال الحرب إلى قرارات عززت حظوظهم في تولي المسؤوليات. فقد انتقل الكثير من القادة من معاركهم العسكرية إلى مكاتب سياسية وثقافية تكريماً لهم.
مؤسسة الحرس الثوري وتصدير المرشحين
لعب الحرس الثوري بعد الحرب دوراً كبيراً في إدارة سياسة البلاد، متكّئًا على ما حصده من قوة في ظل الحرب. وعلى الرغم من أن الإمام الخميني قال بصراحة بوجوب عدم تدخل الجيش والحرس والقوات المسلحة بشكل عام في الحياة السياسة بصفتهم جند الله، إلا إنّ إضاءات مختلفة للقائد الأعلى آية الله علي خامنئي على رؤية الخميني، فتحت الأبواب لرجالات الحرس الثوري للدخول في أروقة السياسة.
أبرز هذه الإضاءات كانت خلال لقاء له مع قادة من الحرس في حزيران 1996 قال فيه: “مبدأ عدم تدخل الحرس في السياسة لازال قائماً بحد ذاته، لكن هذا لا يعني أن تحرك الشباب المؤمن في الانتخابات أمر مرفوض”.
ومع أن المادة 40 من قانون العقوبات في القوات المسلحة الإيرانية، تمنع كل من يعمل في صفوفها من التدخل في الشأن السياسي والدعاية الانتخابية، إلا أن هذا الأمر شهد استثناءات مثل القيادي في حرس الثورة محمد باقر ذو القدر، الذي تولى وهو عسكري منصب نائب وزير الداخلية للشؤون الأمنية عام 2005 ، في حكومة محمود أحمدي نجاد.
وبعيداً عن القوانين، فإن أغلب السياسيين الذين أفرزتهم مؤسسة الحرس الثوري استقالوا من منصبهم العسكري، وعرجوا على السياسي الذي يخدم هذه المؤسسة، وأشهرهم محمد باقر قاليباف ومحسن رضائي.
جامعات مؤدلجة بالثورة
اعتبر مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران الإمام الخميني أن حاكمية البلاد من الله. فهو الذي حدد من يحكمها ضمن معايير واضحة كالفقه والعدالة والشجاعة وغيره، إلا إنّ الخميني شدد على أهمية وحدة النخبة الفكرية والثقافية ونخبة علماء الدين، واعتبر أن المؤامرة التي تهدد البلاد هي فصل النخبتين (الجامعية) و(الحوزوية)، الأمر الذي ترجمه لاحقاً رواد الثورة بتأسيس جامعات تخدم دمج هاتين النخبتين.
اتجه رواد الثورة الإسلامية في إيران إلى أدلجة الصرح الأكاديمي، عبر تغيير المناهج وإعادة ترتيب الحرم الجامعي بما يتناسب والفكر الإسلامي وأجواء ما بعد الثورة، إلا إنّ الصعوبات التي واجهت هذا العمل حثت بطلائع هذه الثورة لخلق مناخها الأكاديمي الخاص، هكذا، تأسست عدة جامعات تبنّت إيديولوجيا الثورة الإسلامية، وكان أولها وأهمها جامعة الامام جعفر الصادق التي تأسست عام 1982 بهمة عدد من رجال الدين الثوريين، على رأسهم محمد رضا مهدوي كني القادم بدوره من جمعية علماء الدين المجاهدين، ويبدو أن الأخير أدرك أهمية تقديم جيل آخر يحمل عقيدة الثورة بعيداً عن المدارس الدينية، فكانت جامعة الامام الصادق خلال العقدين الماضيين منبعًا أساسيًا للمسؤولين في البلاد، فالذي يجمع سعيد جليلي و حسام الدين آشنا وغضنفر ركن آبادي وعلي باقري كني ومحسن اسماعيلي وكاظم جلالي وعدد كبير من سفراء إيران في الخارج، هو أنهم من خريجي جامعة الامام الصادق.
لم تكن الجامعة وحيدة في هذه المهمة، بل كان إلى جانبها جامعة “تربيت مدرس” وجامعة “شهيد مطهري” التي تحولت من مدرسة عليا إلى جامعة بعد الثورة، والهدف الأساسي الذي تتمحور حوله كل هذه الصروح الاكاديمية هو خدمة ايديولوجيا الثورة الإسلامية، ورفد الجمهورية الإسلامية بكوادر معدة لهذا الأمر.
ثوابت المسؤولين في إيران
تتناوب التيارات السياسة الحاكمة في إيران على السلطة التنفيذية والتشريعية عبر انتخابات دورية، تعيد نتائجها توزيع المسؤولين ضمن آليات تحكمها منهجية من يصل إلى سدة الحكم. لكن هناك ثوابت يجب مراعاتها في اختيار الوزراء لا تحكمها التبدلات السياسية في الداخل الإيراني، حيث ينص الدستور على إلزامية تشاور الرئيس المنتخب مع القائد الأعلى الإيراني في تسمية ثلاثة وزرات هي الخارجية والدفاع والأمن، وحسب المادة 110 من الدستور الإيراني، يعين القائد الأعلى بشكل مباشر رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية ورئيس السلطة القضائية وفقهاء مجلس صيانة الدستور ورئيس التلفزيون الرسمي وقائد الحرس الثوري وقائد الشرطة، وهنا يبرز دور القائد الأعلى في صناعة النخب، معطوفا على مسارات صناعتها التي أسلفنا الحديث عنها.
محسوبيات وفساد سياسي في ميزان النخبة
تواجه الطبقة الحاكمة في إيران أزمة فساد سياسي، وتفسخ الشعارات التي رفعتها الثورة في بدايتها. أحد مظاهر هذا الفساد هو استثمار كل تيار فترة إمساكه بالسلطة، لتعيين شخصيات منه في المناصب المتاحة، واستبعاد الكوادر السابقة، ما يجعل سياسة بعض المؤسسات وآليات عملها متأرجحة، تفتقد للتنسيق بين رحيل تيار سياسي عن السلطة، وقدوم تيار آخر، وهو الأمر الذي تشهده إيران غالباً كل 8 سنوات.
وبعيداً عن فقدان وحدة العمل والمسار لدى هؤلاء المسؤولين، فإن قسما من هذه الكوادر المتبدلة متهم بالفساد لاستغلاله هامش السلطة، لكسب ما يمكن كسبه من امتيازات قبل انتهاء فترة حكم تيارها السياسي.
وجه آخر من المحسوبيات والفساد هو تعيين الأقارب والأبناء في مسؤوليات البلاد، ويعرف إيرانيا باسم ظاهرة “اقا زاده ها” أي “أولاد الآغوات” التي لا تستثني أي جناح سياسي في إيران، ما يجعل مكافحتها أمرًا عسيرًا. ومع وصول كل مسؤول جديد تظهر ملفات من هذا النوع من المحسوبيات. ففي فترة رئاسة حسن روحاني برز ملف تعيين صهره كامبيز مهدي زادة كنائب لوزير الصناعة، وتعيين أخيه حسين فريدون كمساعد خاص له. الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد يُنتقدُ أيضا لتوزيع المناصب على عائلته، فهو عيّن صهره مهدي خورشيدي مستشارًا لأمانة مستشاري رئيس الجمهورية، وعين نسيبه اسفنديار رحيم مشائي مساعدا له ومديرا لمكتبه. الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني، بدوره، أورث عائلته عددا من المناصب، على رأسهم ابنه محسن هاشمي الذي يتولى اليوم رئيس مجلس مدينة طهران.
يبرر المسؤولون الإيرانيون تعيين المقربين لهم في المناصب بأنهم أكفّاء لها، ما جعل الشارع الإيراني يصف هذا النوع من التعيينات، ساخرا، بظاهرة الجينات الجيدة.
يوضح الباحث محمد باقر خرمشاد أن “مرحلة بداية الثورة الإسلامية لم تعرف أبداً الفساد السياسي الذي ظهر بعد الحرب، وأصبح موضوعاً متداولاً بين عامة الناس. فأبناء المسؤولين وأقاربهم يتميزون بمكانة سياسة واقتصادية ولهم أملاك لا تحصى”. وعليه، أصبح من بديهيات عمل جزء من المسؤولين الإيرانيين توريث المناصب والأموال إلى أبنائهم من دون حرج، الأمر الذي يحمّل إيران بطبيعة الحال أعباء إضافية لتضارب مصالح “أولاد الأغوات”، وسعيهم للمزايدة في رفع شعارات مسيئة لماهية لثورة التي خاضها آباؤهم.