الإصلاح الديني والتمدن في السعودية: واقع أم شعار؟
بعد رحيل الملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود (1924م – 2015م) وتولي أخوه الملك سلمان مقاليد الحكم في المملكة، برز اسم نجل الملك، الأمير محمد بن سلمان كرجل الدولة القوي، ونظراً للحالة الصحية لوالده، يمارس الأمير الشاب مقاليد الحكم فعلياً منذ أن تدرج سريعا في المناصب ووصوله لولاية العهد في يونيو العام 2017، أي بعد عامين فقط من تسلم والده زمام الحكم.
أول بروز لحالة محمد بن سلمان -إن صح التعبير- تكمن في كسره قوانين العائلة، حيث يدور الملك وولاية العهد بين الأخوة (أبناء المؤسس عبدالعزيز)، ولا تتعداهم لأولادهم، فتقلد محمد بن سلمان ولاية العهد، لفت أنظار العالم لما ستؤول له الأمور في أكبر مصدر للنفط الخام، إلى جانب ذلك، تطلعت المملكة إلى تغيير نمط الاقتصاد من خلال رؤية طموحة ذات سقف عالٍ تمثلت في رؤية 2030 والتي يحتاج تطبيقها لإصلاح بنيوي في جسم الدولة، ليس على الصعيد الإداري فقط، بل حتى على مكامن النفوذ لدى المؤسسات والأشخاص، وقد ظهر جلياً أن المؤسسة الدينية قد تقلص دورها في هذا الإطار، في جو مملوء بالقفزات على الحالة التقليدية للمجتمع السعودي.
ورغم أن السعودية تأسست أصلاً على الإسلام السياسي كما قال الصحافي الراحل جمال خاشقجي في ذات مقابلة، فإن الحديث عن أن الإصلاح والتمدن بصورة تقلب رأس السعودية على عقبها، لا يزال كلاماً مستعجلاً، خصوصًا، إذا ما فهمنا طبيعة المؤسسة الدينية، وقيامها. في المقابل تحمل فكرة تقليص دور تلك المؤسسة الراسخة بذور نجاحها، خصوصًا مع الأخطاء الجسيمة التي قامت بها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في التدخل والتعدي على أبسط الحريات الشخصية، وبإسلوب بعيد عن الحصافة.
يذكر التاريخ أن الدولة السعودية الأولى (قامت عام 1744م) على ركنين، الأول الحاضن السياسي وهو محمد بن سعود والثاني المنظر الديني وهو محمد بن عبدالوهاب، وكانت الفكرة المتأسسة آنذاك، هو تزاوج القوة السياسية مع القوة الدينية، لاستمرار الدولة الوليدة، في وسط إمبراطوريات قوية، كالدولة العثمانية وبريطانيا العظمى، فكانت كالبيعة المتبادلة كما يذهب ابن غنام في كتابه “تاريخ نجد”، فيقول: “تتجلى تلك الحقيقة في البيعة المتبادلة بين محمـد بن سعود ومحمـد بن عبد الوهاب اللذين سعيا منذ اللحظة الأولى لمحاربة مظاهر “الشرك” -كما رآها ابن عبد الوهاب- في الجزيرة العربية، وإقامة شرع الله وفق الرؤية المذهبية الحنبلية، وتوحيد القبائل والعشائر المتناحرة تحت ستار سياسي واحد، وقد وقعت في سبيل ذلك ما تسميه الأدبيات التاريخية الوهّابية بـ”الغزوات” في شتى أجزاء ومناطق نجد وشرق الجزيرة العربية”. انتهى الاقتباس.
عَبَرت تلك الحالة الدولة السعودية الأولى والثانية، ووصلت إلى الدولة الثالثة، وكان لرجال الدين صيتاً وصوتا ونفوذاً، وكانت مظاهر التدين والمحافظة طاغية على صورة المجتمع السعودي، بل وتشكل التفكير الجمعي في غالبه على تلك النمطية المتعززة بقوة القانون، مثلا: نظرة الرجل للمرأة، منمط بنمط هيئة رجال الدين، حيث حرمة قيادة المرأة للسيارة ومنعها من السفر من دون “محرم” وغيرها من الأمور، وهذا التنميط الذي أرسته المؤسسة الدينية صار مع التقادم أعرافاً اجتماعية، والأعراف الاجتماعية كما يدرسها السوسيولوجيون، تكون قوية وضاربة لكن في إطار الغوجيتو (المجتمعات المغلقة)، وإنغلاق المجتمعات على ذواتها باتت تحدياً صعبا، في إطار الاتصالات الحديثة المتمثلة في سرعة التواصل وانتقال المعلومة من خلال شبكة الانترنت.
لذلك، تمرد الجيل السعودي الحالي على تلك الأعراف، حتى قبل وصول الملك سلمان وابنه إلى سدة الحكم، بدليل أن الكثير من أبناء الجيل الحالي، يرى في تلك الأعراف تقاليداً غير ملزمة إذا ما تغيرت الجغرافيا، وعليه ينعكس تمردهم على تلك الأعراف حال سفرهم من المملكة، خصوصا إذا كان السفر للدول الأكثر تحرراً كأميركا ودول أوروبا، لكن الأخطر في هذا الأمر أن الجيل الحالي صار في صراع مرير مع الجيل الذي يسبقه، أي أن الأبناء في صراع مع الآباء الذين يؤمنون بأهمية تلك الأعراف سواء كسلوك اجتماعي أو كواجبات دينية، مثلا، لو قمنا بإطلالة سريعة على مظاهر الانفتاح وحرية المرأة، فإن أكثر ما يبرزه الإعلام الرسمي هو السماح بسياقة المرأة للسيارة، لكن كل تلك البروباغندا تواجه أرقاماً مرعبة كشفت عنها مفوضية شؤون اللاجئين في الأمم المتحدة، حيث وصل عدد طالبي اللجوء في عام 2017 إلى 815 طلب لجوء، أكثرهم من النساء، بينما كان عدد طالبي اللجوء في عام 2012م لا يتعد 200 طلبا، وأكثر طلبات اللجوء في الحالة السعودية، هي لأسباب إنسانية، تتمحور في منع الحرية أو اضطهاد أسري أو ما شابه.
هذا ما يدفع لطرح السؤال، هل أن رغبة فئة الشباب في التحرر السلوكي، وبالتزامن مع خطوات ولي العهد بإقامة الفعاليات التي كانت تعتبر محرمة سابقًا، ستساهم في إنجاح رؤية محمد بن سلمان في تغيير المجتمع السعودي لترسيخ وإرساء قواعد التمدن في السلوك الاجتماعي؟
بدءً، تتأسس فكرة المدنية على أطر التفاعل المؤسسي في المجتمع، أي مساهمة المؤسسات في تشكيل وصنع السلوك السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهذا يتطلب مساحة واضحة وكبيرة من الحرية التي لا تقتصر على جانب دون آخر، ما يفقده محمد بن سلمان في إرساء الإصلاح المدني الحقيقي، أنه لا يستطيع أن يسمح بالحرية السياسية الحقيقية، والتي تعني مشاركة الآخرين في صنع القرار السياسي، وتعني أيضا الشفافية أمام المواطنين، التي تميط اللثام عن الآثار المترتبة على القرارات السياسية، خصوصا القرارات الكبرى، ناهيك عن أهمية الشفافية في الموازنة، وكان ثمة أمل في إحداث فجوة في هذا الجدار مع حملة الاعتقالات في الحادي عشر من نوفمبر 2017 التي طالت أمراء وعرفت حينها بـ الحملة ضد الفساد، أو معتقلي “الريتز كارلتون”، لكن تبددت تلك الشكوك، ليرجع اليقين بالسلوك الصارم والمتمثل في قرار الرجل الواحد، بعد تبين فشل الحرب على اليمن والتي بدأت في عام 2015 ليكتشف العالم بعد أربع سنوات أن الحوثيين قادرون على إحداث خروقات أمنية واضحة، وأن كل الوعود بالحرب السريعة اختفت أو بدت خجولة.
عززت حادثة مقتل الصحافي جمال خاشقجي في السفارة السعودية بتركيا في الثاني من أكتوبر 2018، صورة محمد بن سلمان المخالفة للإصلاح، لكن الأمير الشاب واصل محاولاته في المضي بإنشاء محال الرقص والترفيه وإقامة الحفلات الغنائية، مع إبقاء الجوانب الأخرى قيد سلطة الرجل الواحد، مما يرسخ القناعات القائلة بأن كل تلك التغييرات في المجتمع السعودي وإن كان لها صلة ما بالحريات، ألا أنه نوع من الإلهاء لفئة شبابية تعبت من الصراع مع المؤسسة الدينية من جهة، وأعراف اجتماعية ينافح عنها الجيل الذي يسبقه من جهة أخرى.
الخطوات السياسية الكبيرة التي تقوم عليها السياسة السعودية الحالية، تتطلب عدم معارضة داخلية، لأن الضغوط الخارجية تتزايد وتتفاقم، وتمثل تحدياً قد لا يتسع تحمله، فكيف إذا انصبت عليه معارضة داخلية، من هنا يرجح كفة القول بأن سياسة الإلهاء المتمثلة في كسر أعراف جبل عليها المجتمع السعودي، جاءت لتخفيف مشكلة الضغط الداخلية على السياسية الخارجية والتي يوماً بعد آخر تثقل كاهل المملكة إقتصادياً وسياسياً، كما أن الشكل الظاهري لتلك الحريات قد يعطي صورة خارجية تشي بأن إصلاحاً اجتماعياً يفي بحفظ شيء من حقوق الإنسان، رغم أن نسبة الإعدام في السعودية لا تزال من النسب الأعلى في العالم.
في المحصلة، لا عنصر الفكر موجود لتدشين مجتمع متمدن بالمعنى السياسي الحديث، ولا الطبيعة السياسية متاحة لترفع هذا الخيار برافعة الحرية ومؤسسات المجتمع المدني، كما أنه من غير المعلوم إذا كانت المؤسسة الدينية قد قيدت حقاً أم أنها نمر مجروح ينتظر وثبته.