تحديات التحول إلى الإسلام المعتدل في السعودية
على قاعدة؛ إن لم تسارع للتغيير ستصطدم مع حتمية التطور في واقعك، هذا ما يحدث فى كل المجتمعات عبر مراحل التاريخ المتعاقب؛ ولا استثناء. لا جدوى من محاولات الهروب وخيارات الجمود والانغلاق. ومن هنا، كانت التحولات الأخيرة في السعودية أمراً لا مفر منه.
لكن ذلك لا يعني أن السعودية وهي المملكة الرازحة لسنوات طويلة تحت نمط اجتماعي وديني بدائي ومتشدد، لا تواجهه عدة تحديات كبرى، وهي عقبات حقيقية أمام أي تغيير عميق قد يساعد السعودية في تطوير دولتها ومجتمعها والانتقال من خيار التشدد الديني والانغلاق الى فضاء الاعتدال والتحرر. نحدد هنا ثلاث محاور – ضمن محاور أخرى – لعقبات تحول دون هذا الانتقال الذي يتماشى والخطاب السياسي الجديد في البلاد:
الجذور الوهابية في الدولة
تمثل الجذور التاريخية والسياسية لنشأة السعودية كمشروع دولة، وارتباط هذا المشروع بالوهابية، عقبة أمام إنهاء سيطرة التطرف الديني على توجهات الدولة والمجتمع، على حد سواء. نحن أمام دولة ارتبطت نشأتها بالدين كمكون رئيسي لشرعيتها وتوجهاتها وتاريخها ووحدتها.
كانت الحركة الوهابية الغطاء الديني والشرعي الذي استند عليه الملك عبدالعزيز آل سعود 1902م في تأسيس مملكته في نجد، والتي توسعت لتطال غالبية جغرافيا الجزيرة العربية. وعليه، سيكون على الدولة حين تقوم بتقليص أو إلغاء أو تحجيم هذا الغطاء أن تبحث عن بديل يعوضه، ويحل محله، وبما يحافظ على كيان الدولة وشرعيتها وبقائها. وخلاف ذلك، تكون السعودية – اجتماعياً وسياسياً – تمارس نوعاً من أنواع الانتحار الهوياتي؛ إن صح التعبير.
تبدو قرارات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان آل سعود الأخيرة والتي تهدف الى الحد من سلطة المؤسسة الدينية ومحاربة التشدد في مجملها قرارات صورية، ولن تحقق هدفها داخل بنية الدولة والمجتمع، ذلك أنها لا تمس صلب الدولة ودواخلها بقدر ما ترتكز على ترويج صورة دعائية خارجية.
ليس من السهل أو حتى من المتوقع، الولوج في تجربة سياسية فريدة قوامها “فصل الدين عن الدولة” في السعودية؛ وكذلك هو إنهاء سيطرة وتغول المؤسسة الدينية الوهابية على قطاعات هامة مثل التعليم. يزيد من تعقيد الموقف التعامل مع مجتمع يعيش ازدواجية فريدة بين ما يعتقده دينياً وبين ما يحياه كواقع معاش.
كان لافتاً ما صرح به ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لمجلة FOREIGN AFFAIRS الأمريكية حين قال: “ان التشدد لا علاقة له بالوهابية، وإذا كانت الوهابية نشأت منذ ثلاثة قرون فلماذا لم يظهر الإرهاب إلا الآن؟!”. وهو ما يشير إلى أن لا تصادم بين سياسة الدولة السعودية الجديدة وبين الفكر الديني المتشدد، فالدولة الجديدة لا ترى الوهابية عقبة في تحديثها لكنها تتطلع فقط إلى محاربة التنظيمات الاجرامية المبنية على التشدد الديني دون المساس بالأصول المؤسسة.
وعليه، لا يبدو أن ثمة نهاية قريبة للتطرف في السعودية أو أن هناك تحولاً حقيقياً في المملكة إلى الإسلام المعتدل؛ خصوصاً إن لم يكن هناك توجه واضح وفعال في إنهاء نفوذ “الوهابية” على الدين والدولة والمجتمع، وفي شتى المجالات السياسية والاجتماعية وفي مختلف قطاعات الدولة ومؤسساتها.
اشكالية بُنية الدولة الحديثة
إذا ما نظرنا إلى البنية السياسية للدولة السعودية؛ لا يبدو لنا أن هناك وجود حقيقي لمؤسسات دولة راسخة وقارة تُعاون وتساعد ملك البلاد “الحاكم الفرد” في صناعة سياساته، مراقبتها، أو حتى تنفيذها بالشكل المؤسساتي للدولة الحديثة.
وأمام دولة بلا تاريخ دستوري أو قانوني يُمكن البناء عليه، وأمام تعطيل الحياة والممارسة السياسية منذ نشأة الدولة، وبجانب غياب مجتمع مدني قوي يدعم حركات الإصلاح تبدو السعودية دولة بتكوين بدائي من الناحية المؤسساتية.
وتُشكل حالة اللا سياسة، واللا دولة، واللا مؤسسية، تحديات كبرى في وجه مشروع التحول الجديد والخروج من رجعية الدولة والمجتمع وتشددهما. وبالتالي، تحتاج مؤسسة الحكم في السعودية الى مؤسسات حقيقية على الأرض، وبناء مجتمع مدني فاعل، وصولاً إلى إنهاء سيطرة رجال الدين الذين يمسكون اليوم بمفاصل صناعة القرار في القطاعات الدولة والمجالات الثقافية والفكرية والاعلامية.
الصراعات الطائفية في المنطقة
للجغرافيا السياسية في منطقة الخليج مفاعيلها الداخلية على دول المنطقة، ويمثل الصراع السني الشيعي واستمرار الصراع بين النفوذ الشيعي في إيران ونفوذ الوهابية والسلفية السنية في السعودية، حائلاً أمام التغيير والحد من نفوذ المؤسسة الدينية في السعودية وبروزها في واجهة الدولة والمجتمع.
منذ قيام الثورة الايرانية 1979 شكل الصراع المذهبي محركاً ظاهرياً لصراع النفوذ والسيطرة على جغرافيا الأرض بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي، والمملكة العربية السعودية في قلب هذا الصراع تماماً.
وإذ تتشابه الدولتان في تصدير الشعارات المذهبية لساحة الصراع السياسي ثم العسكري تباعاً، تقف السعودية وحدها فى أزمة تكوينها الداخلي الذي تخرج من تحت عبائته تنظيمات ارهابية ظهرت وتظهر منذ ثلاثين عاماً. بداية مع الجماعات السلفية الجهادية، مروراً بتنظيم القاعدة وتشظياته من تنظيمات دينية متطرفة (منها من يحارب فى سورية منذ سبع سنوات بدعم من السعودية ضد نظام الرئيس بشار الأسد وحليفته إيران)، وصولاً إلى التنظيمات الأكثر راديكالية كتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وما سيترتب على انهياره الأخير من ظهور تنظيمات جديدة منبعها ذات الفكر السني المتطرف.
يبدو الصراع مع إيران تحدٍ كبير يواجه أي عملية تحديث داخلي في السعودية، خصوصاً إن أرادت التخلص من سطوة المؤسسة الدينية الوهابية المتشددة، وقتئذ، على الرياض أن تواجه النفوذ الايراني الشيعي المتطرف فى أكثر من منطقة صراع (اليمن وسورية والعراق ولبنان)، بل وداخل المملكة نفسها، دون محرك قوي يواجه إيران بنفس أدواتها وعوامل قوتها.
في المحصلة، يتموضع الصراع السني الشيعي باعتباره أحد دوافع استمرار سيطرة رجال الدين ونمط الحكم الديني في كل من إيران والسعودية. ورغم ذلك، تشير بنية الدولة الايرانية، ذات التاريخ الأكثر عراقة، والواقع الأكثر تقدماً سياسياً وفكرياً عن نظرائها في دول الخليج العربي، إلى امكانية التغيير السياسي فيها وبما يساعد على التخلص من التطرف الشيعي. وقبالة ذلك، لن يبدو من السهل على المملكة العربية السعودية أن تتخلص من إرث المؤسسة الدينية الثقيل والتشدد “الوهابي” اذا لم تجد البدائل السياسية والعسكرية المناسبة في مواجهة النفوذ الإيراني المتصاعد في المنطقة.