النزاع الخليجي يكشف هشاشة وحدته الاقتصادية
تصاعدت حدة الخلاف الخليجي بشكل كبير من تلاسن واتهامات إعلامية إلى خطوات من شأنها أن تهدم قواعد الوحدة الخليجية، مثل منع وصول السلع الغذائية إلى قطر من قبل السعودية والإمارات، ووضع قيود على حركة الأفراد ورؤوس الأموال، ومنع خطوط الملاحة الجوية للوصول إلى قطر لكافة خطوط الطيران عبر الأجواء السعودية والإماراتية والبحرينية، أو سحب السفراء، وإغلاق السفارات، وثمة مخاوف من تصاعد حدة النزاع إلى استخدام السلاح.
استعانت قطر بقوات تركية على أراضيها، كما أبرمت صفقة لاستيراد طائرات أمريكية (F15) بقيمة 20 مليار دولار، ولازالت الأزمة غير واضحة المعالم، وإن كانت المساعي الدبلوماسية لم تتوقف، لكبح جماح الاحتقان من أن يصل إلى نزاع مسلح.
والخلاف بين دول الخليج ليس بجديد، وفي السابق كانت الخلافات تنتهي بمشاورات بينية كما حدث عام 2014، حيث استجابت قطر للشروط السعودية بإغلاق بعض النوافذ الإعلامية، وترحيل بعض المعارضين المصريين، لكن هذه المرة استدعت السعودية والإمارات دولاً عربية أخرى مثل مصر والأردن لفرض حصارها على قطر الذي اتخذ مظاهر اقتصادية وحرب إعلامية حتى الآن.
ومن ذي قبل وقع خلاف سعودي إماراتي حول مقر البنك المركزي الخليجي، وكان ذلك الخلاف سبباً لتجميد البنك، كما تفردت سلطنة عمان في عام 2006 بإبرام اتفاق للتجارة الحرة مع أمريكا لتخالف شروط الوحدة الاقتصادية الخليجية، ولتضرب خطوة السوق الخليجية المشتركة في مقتل. لكن كل هذه المظاهر للخلاف الخليجي لم تستدع ذلك التحالف لفرض حصار اقتصادي كامل كما حدث مؤخراً مع قطر، من منع تبادل السلع أو استدعاء الأفراد للعودة لبلدانهم من قطر، أو مطالبة القطريين بمغادرة الإمارات والسعودية والبحرين.
وبلا شك فإن وقوع هذه الأزمة عكس هشاشة الوحدة الخليجية في جوانب متعددة، سواء على الصعيد السياسي أو الأمني أو الاقتصادي، وفي هذه السطور نشير إلى مظاهر هشاشة الوحدة الاقتصادية لمجلس التعاون الخليجي، بل وإمكانية انهياره أو بقائه بلا دور مؤثر، نتيجة لما أسفرت عنه الاصطفافات من تداعيات ونتائج.
مظاهر هشاشة الوحدة الاقتصادية
المفترض أن يفضي مشروع الوحدة الاقتصادية الذي بدء مع نشأة مجلس التعاون الخليجي منذ ثلاثة عقود ونصف إلى وجود مصالح مشتركة، وتشابكات اقتصادية تحول دون وجود نزاع حول مسائل سياسية، حيث تغلب المصالح الاقتصادية على الصراع السياسي، فيتم التفاوض حول قضاياها وتهمش الخلافات السياسية، ولكن الواقع عكس عدم وجود مصالح اقتصادية معتبرة يمكنها أن تكون حائل دون وصول الأمور لما آلت إليه مؤخراً بين الدول الخليجية وبعضها بعضاً، ومن مظاهر غياب المصالح الاقتصادية ما يلي:
– أن حجم التجارة البينية لقطر مع دول مجلس التعاون الخليجي غير مؤثر في تجارتها الخارجية، فهو لا يزيد عن 6% من حجم صادرات قطر الخارجية، و12% من حجم وارداتها، هذا من حيث القيمة، أما من حيث النوع، فالسلع التي تمثل هيكل التبادل التجاري لا تعكس تفرداً خليجياً من حيث التكنولوجيا أو السعر، فالأمور محصورة في مجموعة من السلع الغذائية والمواد الخام، والسلع المصنعة في إطار الصناعات التقليدية، ويعتبر الغاز الطبيعي عماد الصادرات القطرية لدول الخليج، وبخاصة السعودية والإمارات.
– أن مجلس التعاون الخليجي على الرغم من أنه يضم 6 دول فقط، لم يكن على قلب رجل واحد في موقفه مع قطر، فخرجت الكويت وسلطنة عمان عن مشروع الحصار الذي تفرضه السعودية والإمارات والبحرين على قطر. وفي حين سعت الكويت لإنهاء الأزمة عبر المساعي الدبلوماسية، فتحت سلطنة عمان موانئها لدخول السلع من كافة دول العالم إلى قطر. وبالتالي يمكننا القول بأن مجلس التعاون الخليجي شهد حالة من الانقسام بشأن فرض الحصار الاقتصادي على قطر، وهو ما يعرض مستقبل المجلس لخطر التجميد، أو عدم تحقيق خطوات يمكن اعتبارها إضافة لما تم بعد اعتماد السوق الخليجية المشتركة في عام 2005. ومن أقرب الشواهد على المخاوف حول مستقبل مجلس التعاون الخليجي، رفض قطر لاستئناف السعودية بإمدادها ببعض شاحنات السلع الغذائية.
– في الوقت الذي استطاعت فيه قطر الحصول على بدائل للسلع المستوردة من السعودية والإمارات (تستحوذ السعودية والإمارات على نحو 80% من التبادل التجاري لقطر مع دول الخليج) لم تلجأ إلى تفعيل بعض أوراق الضغط التي تمتلكها ضد الإمارات على وجه التحديد، وهي وقف إمدادات الغاز الطبيعي. وبلا شك أن تقليص حجم التجارة البينية لدول مجلس التعاون الخليجي وكذلك باقي التعاملات الاقتصادية يدلل على تهميش دور مجلس التعاون الخليجي خلال المرحلة المقبلة، فالمفترض أن التجارب التكاملية تفضي إلى مزيد من الاندماج الاقتصادي، وليس الحصار والمقاطعة، فالاتحاد الأوروبي على سبيل المثال تمثل التجارة البينية لدوله نحو 65% من تجارته الخارجية مع العالم.
إهدار الموارد
لا يمكن تسمية ما يتم في إطار النزاع الخليجي بأقل من أنه تفنن في إهدار الموارد الاقتصادية والمالية لدول الخليج، والدول الأخرى التي ساندت السعودية والإمارات، فالخطوط الجوية القطرية ستتحمل خسائر نتيجة عدم استخدامها المجال الجوي لكل من الإمارات والسعودية حيث يطول وقت الرحلات للضعف، وهو ما يعني مزيداً من التكاليف الاقتصادية، كما أن صفقة الطائرات التي أبرمتها قطر مع أمريكا بنحو 20 مليار دولار، لم تكن لتوقع لولا الحصار الخليجي.
ومن جانب آخر فإن الشركات المعنية بالتجارة مع قطر في كل من السعودية والإمارات، أصيبت بخسائر كبيرة، حيث إنها لم توف بالتزاماتها وتوفير السلع في الأوقات وبالكميات المتفق عليها، وثمة قطاعات أخرى متضررة في السعودية والإمارات وقطر والبحرين، مثل قطاعات النقل والشحن والتأمين والسياحة والبنوك. وكان الأولى أن تحافظ دول الخليج على مواردها المالية المتراجعة منذ أزمة انهيار أسعار النفط التي حلت في منتصف عام 2014.
ووسط هذه الأجواء، تم توظيف وسائل الإعلام المملوكة لتلك الدول أو التي تمولها عبر الأبواب الخلفية، وكذلك ما أعلن من توظيف فرق اختراق المؤسسات وحسابات الأفراد إلكترونياً، وهو عبء إضافي، سوف تستفيد منه جهات معينة لتستنزف المقدرات المالية للدول المشاركة في هذا النزاع.
فرصة تركيا وإيران
رد الفعل السريع لتخفيف الحصار الاقتصادي عن قطر من قبل تركيا وإيران، أضعف الخطة الإماراتية السعودية وباقي الدول المشاركة في فرض الحصار على قطر، حيث امتد الجسر الجوى من تركيا وإيران ليمد قطر باحتياجاتها من الغذاء وباقي السلع التي كانت تستوردها من السعودية والإمارات.
وبلا شك فإن الخطوة التي أقدمت عليها كل من تركيا وإيران بشأن تقديم احتياجات قطر من الغذاء وباقي السلع لن تكون وقتية، ولكن نعتقد أنها ستمثل إستراتيجية لقطر في تجارتها الخارجية، حيث أن الدوحة لدغت من جحر الرياض مرتين في أقل من ثلاث سنوات عبر منع وصول السلع الغذائية من السعودية لقطر. وقد يكون اعتماد قطر في الأجل الطويل على تركيا وإيران مدخلاً لتقليل نفقات النقل وباقي النفقات لاستدامة العقود. وبذلك ستفقد السعودية والإمارات تجارتها مع قطر، بل والعديد من العلاقات الاقتصادية الأخرى.