بوتين في طهران لتثبيت “حلف الضرورة” أم لشراكة استراتيجية؟

التوافق السائد بين طهران وموسكو لا يمكن أن يعبر عن حلف استراتيجي بينهما

طهران راضية عن المستوى الحالي لعلاقاتها مع روسيا لكنها تقر بعدم وجود استراتيجية مشتركة متكاملة الأبعاد

شهدت العاصمة الإيرانية طهران مؤخراً حدثاً كبيراً عندما حل الرئيس الروسي فلادمير بوتين ضيفاً عليها وسط متغيرات جمة تجتاح المنطقة، أهمها دخول روسيا على خط الأزمة السورية عسكرياً.
ويرى مراقبون أن هذه الزيارة على الرغم من أهميتها إلا أنها لن تنقل العلاقة بين الجانبين إلى مستوى استراتيجي، ذلك أنها بنيت أولاً، تبعاً لمسار علاقات كل من العاصمتين مع واشنطن، وارتبطت ثانياً بنظرة موسكو وطهران للمتغيرات الإقليمية والدولية والدور المفروض لعبه لكل منهما فيه.
وحتى التوافق السائد بين طهران وموسكو في كثير من الملفات المحورية، لا يمكن أن يعبر عن حلف استراتيجي بينهما، فرغم ما يجمع البلدين من شراكة سياسية واقتصادية وعسكرية، إلا أن ذلك يشكل “تحالفاً للضرورة” أكثر من أي شيء آخر، فأربعة قرون من العداء التاريخي وعشرات السنين من الاختلاف الأيديولوجي لا يمكن أن تصنع شراكة استراتيجية بين أي طرفين.
لن نغوص في تاريخ العلاقات الإيرانية الروسية على مدى أربعة قرون تخللتها حروب عديدة ومراحل من الشد والجذب، إلا أننا سنستعرض أهم محطات العلاقات بين الجانبين في أعقاب انتصار الثورة الإسلامية في العام 1979، حيث ساد الارتباك الموقف الروسي من الأوضاع المستجدة في إيران، فلم يعرف بدايةً كيفية التعامل مع إيران الجديدة، فمن جهة أنهى إنشاء الجمهورية الإسلامية قرب الحدود السوفيتية الأحلام الأميركية بالسيطرة على تلك المنطقة، لكنه ومن جهة أخرى شكّل تحدياً جديداً للسوفيت على حدودهم مباشرة.
وفي تلك المرحلة قام الاتحاد السوفيتي بتوفير الدعم والسلاح لنظام صدام حسين خلال الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988). كما ساد التوتر العلاقات بين البلدين بسبب الموقف المتباين بعد التدخل العسكري الروسي في أفغانستان، والذي رفضته طهران بشدة. فضلاً عن الاختلاف العميق حول العلاقات الروسية مع إسرائيل العدو الأول للجمهورية الإسلامية الإيرانية.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وانفصال الجمهوريات الإسلامية، ازداد قلق روسيا من احتمال قيام إيران بدعم هذه الجمهوريات. على الرغم من بروز مؤشرات وملامح لشكل جديد من العلاقات الثنائية أهمها زيارة لروسيا قام بها رئيس مجلس الشورى الإسلامي آنذاك هاشمي رفسنجاني في العام 1989، إلا أن يلتسن، الرئيس الروسي الأول بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فضل التقارب مع الغرب، الأمر الذي أدى به للابتعاد عن إيران خلال تلك الفترة. وقد انتظرت طهران حتى عام 1992 لتضع اللبنة الأولى في علاقتها مع موسكو، بالتوقيع على اتفاقية تعاون مشترك لبناء مفاعل بوشهر النووي كجزء من اتفاقية طويلة الأمد.
ومنذ ذلك التاريخ فرضت عوامل عديدة نفسها خلق تقارب تدريجي بين الجانبين، منها: القرب الجغرافي، والمصالح الاقتصادية المشتركة، ومعادلات التنافس الإقليمي. وقد أدركت العاصمتان الأهمية الاستراتيجية للتعاون المشترك بينهما، مع عدم إغفال المحددات المقيدة لارتقاء العلاقات بين البلدين.
شكل تفكك الاتحاد السوفيتي مرحلة حاسمة نقلت العلاقات إلى مستوى جديد، فتبددت مخاوف طهران من أن روسيا تشكل تهديداً لحدودها الشمالية، وبالمقابل اطمأنت روسيا تدريجياً للسياسة الواقعية لإيران الإسلامية، وبدأت تعتبرها عامل استقرار في المنطقة الجنوبية لحدودها.
اللحظة المفصلية في تطور العلاقات بين موسكو وطهران، لتأخذ الشكل الذي باتت عليه اليوم، جاءت مع وصول بوتين إلى السلطة عام 2000، حينها تحولت السياسة الروسية تجاه أميركا من التبعية إلى عدم الثقة الصريحة والمعلنة. وحتى الرئاسة الثالثة لبوتين سعت روسيا بوضوح لاستعادة دورها كقوة عظمى منافسة للولايات المتحدة، فبدأت تفكر بتعزيز مكانتها في آسيا الوسطى وبالعودة إلى الشرق الأوسط، ما دفعها لإعادة تقييم دور إيران الجيوستراتيجي، وتأثيرها المباشر في منطقة القوقاز وبحر قزوين وآسيا الوسطى والشرق الأوسط.
في الوقت نفسه، أثارت عمليات غزو أفغانستان 2001، والعراق 2003، قلق إيران وروسيا على حد سواء، كما تشابهت المواقف والمخاوف من تقدم حلف الناتو نحو الشرق، في القوقاز وآسيا الوسطى ومنطقة بحر قزوين.
كل تلك التطورات أدت إلى تكثيف الجانبين مساعيهما لتطوير العلاقات بينهما والوصول بها إلى مستوى الشراكة في عدة مجالات منها التعاون الاقتصادي التجاري، والتعاون العسكري، وأخيراً التعاون النووي.
ومما لاشك فيه أن زيارة بوتين إلى طهران تأتي في ظل متغيرات متسارعة تعصف بالمنطقة وتؤثر بشكل أو بآخر على معطيات العلاقة الملتبسة بين موسكو وطهران، أولها: “الربيع العربي” والأزمة السورية حيث وقفت طهران وموسكو إلى جانب النظام السوري في كافة المحافل الدبلوماسية، ولم يسبق للبلدين أن تشاركا موقفاً بهذا التطابق كما فعلا في هذا الملف.
وثانيها: وصول روحاني إلى سدة الرئاسة الإيرانية، بعد سنوات من النهج المتشدد لسلفه محمود أحمدي نجاد، والذي شهدت فترتا رئاسته الكثير من المواقف والسياسات التي أدت إلى توتير العلاقات مع موسكو.
وأخيراً، متغير الانفتاح الإيراني والأميركي المحتمل، ومستقبل العلاقات بين إيران ودول الخليج، وتحديداً المملكة العربية السعودية التي حاولت مراراً وتكراراً إيقاف الهرولة الروسية باتجاه ايران عن طريق جعلها شريكاً اقتصادياً رئيسياً لها، إلا أن الروس رفضوا جميع الإغراءات التي قدمتها السعودية نتيجة لدورها في التسبب بهبوط أسعار النفط واتهامها بمساعدة الإرهاب الذي تحاربه روسيا اليوم.
من المؤكد أن جملة هذه المتغيرات إلقت بظلالها على الزيارة التي لن تظهر نتائجها في المدى المنظور. لكن السؤال حول ما إذا كانت زيارة بوتين في ظل هذه المتغيرات ستساهم في رفع الحذر التقليدي الذي طالما حكم العلاقات الثنائية بين البلدين والقفز بها إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية؟
يقول مقرب من دوائر القرار في إيران إن طهران راضية عن المستوى الحالي لعلاقاتها مع روسيا وتقر بعدم وجود استراتيجية مشتركة متكاملة الأبعاد معها، وتعتقد أن بوتين يريد الحصول على أوراق في المنطقة ولديه أهداف متعددة من ضمنها: الضغط على واشنطن للحد من ضغوط الأخيرة عليه. ومحاربة الإرهاب الذي يمثّل تهديداً للأمن القومي الروسي. وأخيرا فإن بوتين يريد اقتدار روسيا واستعادة قوتها.
ويضيف: “إيران تعتقد أن التطابق في الاستراتيجيات مع الروس يخدمها، كما هو حال التعارض في ما بينهم وبين الأميركيين”. لذلك “هي تعطي روسيا الفرص والأوراق مع مراقبتها دائماً، لأنهم عندما تتطابق مصالحهم مع الأمريكيين سيكون هناك خلل”.
ويستدرك: “لكن يبدو أنه قد حصلت تطورات خلال الأسابيع الأخيرة.. مشاكل أمريكا وروسيا تتزايد. مثلاً طائرة سيناء، وإسقاط تركيا للطائرة الروسية اعتبرته دوائر روسية بضوء أخضر امريكي”.
ويختتم بالقول: “الآن موقفهم صار أقرب إلى موقفنا، وخصوصاً بعد دخولهم الحرب في سوريا. مواقفهم السياسية صارت أكثر وضوحاً، علماً بأن ذلك لا يلغي مراعاتهم الواسعة للسعودية، حيث أنهم يشعرون بالامتنان تجاهها نتيجة مساعدتها لهم في العودة إلى مصر. والخلاصة: الروس يبحثون عن مصالحهم قبل أي شيء آخر”.
إذن مستقبل العلاقات بينهما سيظل محكوماً بمحدداته التقليدية التي تفرضها علاقة كل من الطرفين بواشنطن، والمصالح المشتركة بين الجانبين، فضلاً عن معادلات التنافس الإقليمي والدولي، والدور الذي تطمح إيران وروسيا للعبه في النظام الدولي المتصور لكل منهما.
لكن هناك مؤشرات تنبئ بتطور هذه العلاقات خلال الفترة المقبلة لكنها كذلك لن تخرج عن حيز التعاون الاقتصادي المتعلق بالطاقة والمجال العسكري والنووي.
وفي السياق ذاته تدل التجربة الإيرانية السابقة خلال الفترات الرئاسية لكل من رفسنجاني وخاتمي وتولي روحاني لمناصب مهمة خلالها على أن إيران ستولي اهتماماً خاصاً لمنطقة وسط آسيا والقوقاز، وتحرص على التعاون مع روسيا، لفتح الآفاق أمام الاقتصاد الإيراني الذي يشكّل العقبة الأبرز أمام حكومة روحاني.

منشورات أخرى للكاتب