فرنسا والخليج: الحاضر وآفاق المستقبل
فرنسا سعت لأن تحتل الصدارة مستفيدة من إمتعاض الشعوب العربية من السياسات الاميركية والبريطانية
أبدت باريس موقفا واضحا في المفاوضات النووية مع إيران وتعهدت بامداد دول مجلس التعاون الخليجي بالسلاح وبنشر قواتها العسكرية إذا ما تطلب الأمر
أمنت دعوة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند لحضور القمة التشاورية لقادة دول مجلس التعاون الخليجي، المنعقدة فس 15 آيار/ مايو 2015 في العاصمة السعودية الرياض، السماح لفرنسا إنعاش علاقاتها الدبلوماسية والتجارية والعسكرية مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، التي تراجعت بشكل طفيف بعد خسارة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة، وهو الذي كان قد دشن من جديد تكريس وتعزيز العلاقات الثنائية مع دول الخليج الغنية بالنفط، فيما كانت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا يبدي كلاهما اهتماماً خاصاً بأوضاع المنطقة برمتها بعد حرب الخليج الأولى والثانية، لاستثمار الفرص المتاحة في الأسواق المحلية والأجواء الأمنية، التي تضررت بفعل ما أحدثته الحرب من دمار.
وفي ما كانت الولايات المتحدة وبريطانيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي، تعتبر نفسها بمثابة الضامن للاستقرار السياسي والأمني في المنطقة، ظلت فرنسا تتحين جميع الفرص المؤاتية من أجل توثيق وتعزيز روابطها الاقتصادية والتجارية والثقافية والعسكرية مع دول مجلس التعاون الخليجي وخاصة السعودية والإمارات وقطر بشكل أوسع، وجعلها أكثر استجابة للتكيف مع متطلبات الدعم الدبلوماسي والاقتصادي والتجاري والعسكري الفرنسي. وترتب على هذه الاعتبارات الاستراتيجية حقائق سياسية، فقد سعت فرنسا لأن تحتل الصدارة ليس فقط في منطقة ساحل الخليج العربي، بل أيضاً العالم العربي برمته، مستفيدة من امتعاض الشعوب العربية من الخليج إلى المحيط، من السياسات الأميركية والبريطانية، التي ظلت تنظر لمختلف قضايا الأمة العربية والإسلامية بنظرة استعلائية كبيرة، وتتدخل في شؤونها الداخلية بشكل سافر، حيث لم تعد السيادة الوطنية لها قدسيتها، على العكس من فرنسا التي كانت دائماً تسعى للوقوف على الحياد تقريباً في مختلف القضايا الشائكة التي يواجهها العالم العربي، وكانت بمثابة نمودج لبلد أظهر توازناً في مختلف الصراعات التي تعرضت لها مناطق الخليج، فقد أقامت منذ العام 1974 علاقات ودية واقتصادية وثيقة مع العراق، ولذا لم تقرر إلا متأخرة دعم الإجراءات العسكرية في يناير 1991 حينما أصبحت الحرب على العراق قاب قوسين أو أدنى من الانفجار، في نفس الوقت الذي وثقت فيه روابطها التجارية والثقافية مع غالبية دول مجلس التعاون الخليجي وخصوصاً البحرين ودولة الامارات العربية المتحدة، حيث كانت جسور تبادل الوفود الدبلوماسية والثقافية والشبابية والطلابية ممتدة في تلك المرحلة الصعبة والحساسة.
وفي الفترة الراهنة، وبعد تصاعد نقمة الشعوب الخليجية، ضد ممارسات الغطرسة الأميركية والبريطانية في المنطقة، وأصبحت بمثابة (القوة الطاغية) لردع التحركات المطلبية الكبيرة، التي تفجرت من أجل التغيير الحقيقي والجوهري، وطرح المطالبات الخجولة الداعية لتبني الإصلاحات من داخل البيت الخليجي نفسه، وضعت فرنسا منطفة الخليج ضمن أولويات توجهاتها السياسية والاقتصادية الاستراتيجية والمستقبلية القادمة، حيث أبدت باريس مواقف معتدلة تقريباً في ما يتعلق بقضايا الصراع والحروب والنزاعات المسلحة في سوريا والعراق واليمن، التي قيل أنها تحصل على دعم مالي وسياسي وإعلامي من إيران، وطمئنت حكام الخليج، بأن مختلف التهديدات التي يواجهونها هي نفسها التي تواجهها فرنسا في الوقت الراهن، وأنها مازالت تطمح لأن تكون حليفاً قوياً وموثوقاً لدول مجلس التعاون، كما طمأنتهم أيضاً بعدم جدية التهديدات الإيرانية المتكررة، وعدم استعداد طهران للتورط في حرب طاحنة في المنطقة، ولذا فقد أبدت باريس موقفاً واضحاً وقوياً في المفاوضات النووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بإصرارها على فرض ضمانات كافية لكي لا تتمكن طهران من امتلاك سلاح نووي، وتأكيداً على ذلك تعهدت فرنسا بإمداد دول مجلس التعاون الخليجي بالسلاح وبنشر قواتها العسكرية في منطقة الخليج إذا ما تطلب الأمر ذلك، فيما تعذر على الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، الوفاء بتعهداتهما في ضمان حماية أوضاع المنطقة.
ويتوقع أن تتطور العلاقات وتتوثق بين فرنسا ودول مجلس التعاون الخليجي خلال العقد القادم، حيث أن كليهما بحاجة إلى الآخر، وحيث أنهما يواجهان نفس التحديات والمخاطر، التي مازالت تنظر لها الحركات المتطرفة والإرهابية والإسلام السياسي الأصولي بعين الاعتبار، كأهداف مرحلية واستراتيجية للتغيير الأصولي الإسلامي والجهاد في مواجهة الصليبيين والكفار، الذي يستهدف بصورة خاصة منطقة الخليج وبعض الدول الاوروبية، التي أخذت تتزايد فيها باضطراد أعداد المهاجرين واللاجئين من مختلف الأقطار والمناطق الإسلامية. ففي ما يتعلق بمواجهة قضايا التطرف والإرهاب عمدت دول مجلس التعاون الخليجي، إلى ترتيب سلسلة من إعادة بناء ترساناتها العسكرية وخصوصياتها الأمنية، التي تأثرت بفعل تراكم الأحداث والمشاكل الأمنية، وما يقال عن التهديدات الإيرانية المستمرة ضد دول المنطقة وخصوصاً في البحرين واليمن، والبدء ببرامج تسلح جديدة، وقد ترتب على ذلك أن قامت الرياض بعقد صفقة سلاح ضخمة مع باريس بلغت تكاليفها أكثر من 20 مليون دولار، فيما وقعت دولة قطر صفقات أخرى اشترت بموجبها من فرنسا قرابة 25 طائرة مقاتلة من طراز “رافال” بلغت قيمتها أكثر من 7 مليار دولار، إضافة إلى إرسال أكثر من 36 طياراً قطرياً و100 مهندس ميكانيكي وعدد من ضباط جهاز المخابرات القطرية لتدريبهم في فرنسا، ومازالت تجري هناك بعض المفاوضات بين باريس ودولة الإمارات العربية المتحدة حول شراء الأخيرة لعدد من الطائرات المقاتلة من طراز “رافال” التي قد تصل أسعارها إلى مليارات الدولارات، في وقت مازالت تواجه فيه جميع هذه الدول تحديات سياسية واجتماعية وأمنية، بسبب غياب الديمقراطية والحريات وحقوق الانسان، واستمرار المطالب الشعبية بإجراء الإصلاحات الحقيقية والجوهرية على مختلف الأنظمة المعمول بها في تلك البلدان.
وعلى الرغم من ذلك فلم يكن بالإمكان إخفاء القلق والمخاوف الخليجية، بعد أن أصبحت إيران قوة مؤثرة ومهيمنة في القرار الخليجي والإقليمي، و قوة دولية مسيطرة على أهم طرق الملاحة الدولية، والتي ظلت تعتبر معبراً مهماً للتجارة والصادرات النفطية، وبعد أن خيبت صفقة الاتفاق حول الملف النووي الإيراني، التي أفضت إلى مد جسور التقارب الأميركي ـ الإيراني، آمال حكام دول مجلس التعاون، من جدية فرط التطمينات الأميركية والبريطانية، لضمانات “أمن الدول الخليجية الصديقة” وانحيازهما المستتر لإيران، وعدم تمكنهما من ردع ما يصفونها “بالعربدة الإيرانية” في المنطقة، وخصوصاً بعد التصريحات الملفتة، التي أطلقها الرئيس الأميركي باراك أوباما، القائلة “بأن المخاطر التي تواجه دول مجلس التعاون الخليجي اليوم لا تأتي من احتمالات وقوع هجمات من جانب إيران” إنما من خلال تراكم الاستياء الشعبي الذي يحدث في ساحات هذه الدول، نتيجة طرح المطالب الديمقراطية والحريات، وبدأ الموقف الفرنسي شبه متفرد وانطبع بعلاقات التحالف الوثيق مع حكومات دول مجلس التعاون والتي ترتبت على المساهمات المالية السخية والضخمة، التي قدمتها دول مجلس التعاون إلى فرنسا باعتبارها الدولة البديلة في المستقبل، والتي ربما تستطيع كسر الاحتكار الأميركي ـ البريطاني في المنطقة. وعلى هذا المنوال توالت الاهتمامات الخليجية بوضوح أكبر تجاه الرغبات الفرنسية المستمرة حول القدرة على القيام بالتزاماتها لضمانات الأمن في الخليج في حال حدوث أي انسحاب أميركي بريطاني محتمل من المنطقة.
وعموما يمكن القول أن تطلعات فرنسا في لعب دور عالمي، لاتكمن فقط في تكريس العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع الدول التي تعتبر حليفة، بل أيضا في استخدام رصيدها الدولي لضمانات حماية أوضاع تلك الدول، في نفس الوقت الذي تتحاشى فيه المغامرة بالدخول في مسار أحداثها الداخلية، وهو ما ينعكس مباشرة على محاولات حكام دول مجلس التعاون الخليجي لتوثيق وتعزيز الروابط السياسية والاقتصادية والعسكرية مع فرنسا على المديين المرحلي والاستراتيجي.
وعلى أساس هذه الحقائق، سوف تعمد واشنطن ولندن، إلى مراجعة أسس تحالفاتهما مع دول مجلس التعاون الخليجي، وبالتالي حجم ونوعية مساعداتهما العسكرية لها، وباللجوء إلى إجراءات تؤدي في نهاية المطاف إلى المزيد من الضغوطات التي يمكن أن تعيد بها إخضاع المنطقة للمصالح الأميركية والبريطانية المشتركة من أجل مواصلة الاستئثار بمواردها الطبيعية وخاماتها النفطية وموقعها الاستراتيجي الفريد في قلب العالم برمته.